قوله تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 ) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
أنزل الله القرآن بلغة العرب وجعله في غاية الفصاحة والبلاغة ،وفي الذروة السَّامِقة من روعة النظْم وعجيب الأسلوب ،فما سمعت به العرب حتى شُدِهُوا شَدْها ،وغشيهم من البُهْر والذهول ما غشيهم .
على أن القرآن تتجلى فيه ظواهر الإعجاز المذهل ؛لكونه عربيّا أنزله الله بلسان العرب فصيح جَليّا ليفهموه ويتدبروه ويعوا ما فيه من الحقائق والأحكام والمعاني .ولو جعله الله أعجميا ،أي بلغة غير العرب{لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ} أي هلا بُيِّنَتْ آياته فجاء واضحا مستبينا بلغتنا ؛لأننا عرب لا نفقه الأعجمية .
قوله:{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الأعجمي الذي لا يُفصح ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من غير العرب ،نقول استعجم عليه الكلام أي استبهم{[4068]} والاستفهام للإنكار ،والمعنى: أقرآن أعجمي غير فصيح ولا مفهوم ،والذي أنزل إليه عربي ؟
قوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن القرآن هداية لهم ليرشدهم إلى الحق ويقودهم على سواء السبيل فينجون به من الشقاء والتعثر والباطل ،ويسعدون بالنجاة يوم القيامة .
وكذلك فإن القرآن شفاء للناس ،إنه شفاء لهم من كل الأمراض ،وهو شفاء للقلوب من الرِّيب والوساوس والظنون والشبهات استبراء لها من الأدران والأمراض والمفاسد على اختلاف أنواعها وظواهرها .
إن القرآن نور إلهي مشعشع يقذفه الله في قلوب عباده المؤمنين ،ليستنقذهم به من سائر الأمراض والعقابيل الأليمة والممضَّة .لا جرم أن المؤمنين الذين أخلصوا لله دينهم وأذعنوا له بكل الطاعة والخضوع ،يتلذذون بسعادة الأمن والراحة في نفوسهم ،وينعمون ببرد السكينة والرضى وهو على الدوام مبرئون من مختلف الأمراض النفسية التي تفتك بالمجتمعات الضالة السادرة في تيهِ الكفر وفي ظلام المادية الجاحدة ،المجتمعات التي ما فتئت تتجرع كؤوس المرارة والشقاء والظلم والقلق .
قوله:{وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ} الذين ،اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره ،الجملة الاسمية من المبتدأ وخبره وهي{فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ}{[4069]} الوقر – بالفتح – معناه: الثقل في الأذن ،- وبالكسر – الحمل{[4070]} .والمعنى: أن الجاحدين المكذبين في آذانهم ثقل أو صمم فلا يستمعون هذا القرآن ؛لأنهم مفرِّطون فيه ،معرضون عنه ؛لسوء طبعهم وفساد فطرتهم وشدة عنادهم{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي أنهم عمي عن هذا القرآن فلا يبصرون ما فيه من دلائل وبينات أو أن قلوبهم عمياء عن هذا القرآن وما فيه من عظيم المعاني ومن ظواهر الإعجاز .
قوله:{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يقال ذلك لمن لا يفهم ،على سبيل التمثيل .فالذي يفهم يقال له: أنت تسمع من قريب .والذي لا يفهم يقال له: أنت تنادي من بعيد ؛فهو كأنه ينادي من مكان بعيد منه ،لأنه لا يسمع النداء ولا يفهمه ،وقيل: من دُعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم ،وذلك حال هؤلاء المكذبين المعرضين عن القرآن .