قوله تعالى:{وهو الذي أنشأ جنت معروشت وغير معروشت والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشبها وغير متشبه كلوا من ثمره إذا أثمره وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} يقيم الله في ذلك دلائل من الطبيعة والخلق على تقرير حقيقة التوحيد وعلى قدرة الخالق الجليل الذي صنع هذه الخلائق وأشباهها وأبدع فيها طبيعتها وصفاتها من مختلف الطعوم والمذاقات والأكل بما يقطع في يقين كامل علة وجود الله سبحانه وأنه الإله الأحد المتعالي الذي أوجد كل شيء من لا شيء وعلى غير مثال سبق فقال سبحانه:{وهو الذي أنشأ جنت معروشت وغير معروشت} الجنات: البساتين .
والمعروشات ،من العرش وهو أعلى الشيء .وعرش البيت يعني سقفه .واعترش العنب إذا علا على العريش .وعرش الكرم عرشا وعروشا .أي رفع دواليه على الخشب .والكروم المعروشات: ما حمل منها على العريش ،وهو عيدان تصنع على هيئة السقف ليوضع عليها الكرم{[1292]} أما غير المعروشات فما كان من الكرم ممدودا على الأرض غير مرفوع .قال ابن عباس في ذلك: معروشات ما عرش من الكرم ،وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم .وفي رواية عنه أخرى أن المعروشات ما عرش الناس وهو ما يغرسونه من بساتين ونحوها .وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمرات .
قوله:{والنخل والزرع مختلفا أكله} النخل والزرع ،معطوف على جنات ،سمي أكلا ،لأنه يؤكل .والمعنى أنه سبحانه خلق النخل والزرع مختلفا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر .يعني مختلفا طعمه فمنه الجيد ومنه دون ذلك .
وقيل: أنشأهما مختلفين في الصورة والمعنى ،أو في الهيئة والكيفية .
قوله:{والزيتون والرمان متشبها وغير متشابه} الزيتون والرمان معطوف على جنات كذلك .متشابها حال منصوب .أي خلق الزتتون والرمان حال كونه متشابها وغير متشابه .واختلف في تأويل{متشبها وغير متشبه} فقيل: المراد في الطعم فمنه الحلو والحامض والمر .وقيل: متشابها في المنظر وغير متشابه في الطعم .فهذه الأنواع من النبات كالنخيل والزرع والزيتون والرمان وغير ذلك من أنواع المغروسات والثمرات على اختلاف أنواعها وهيئاتها ،وتفاوت طعومها ومذاقاتها ،وتباين أصنافها وأحجامها ،كل ذلك ينطق بالبرهان الساطع ،والدليل الأبلج اللامع لكل امرئ عاقل فطين على وجود الله وعلى جلال ملكوته وعظيم سلطانه وجبروته .لا جرم أن ذلك كله من صنع الله وتقديره ليكون ذلك كله أعظم شاهد على وحدانية الخالق الحكيم .
قوله:{كلوا من ثمره إذا أثمر} الأمر في قوله:{كلوا} للإباحة .فقد أباح الله للناس الأكل من ثمر ما غرسوا .وظاهر الآية يدل على إباحة الأكل قبل النضج والينع قوله:{وءاتوا حقه يوم حصاده} اختلفوا في المراد بحقه يوم حصاده على ثلاثة أقوال هي: القول الأول: على أن المراد به الزكاة المفروضة .وهي العشر ونصف العشر لكيفية السقي .فما سقي بماء المطر ففيه العشر ،وما سقي بالسانية – وهي الناقة يستقى عليها – فيقتضي ذلك كلفة مالية ،ففيه نصف العشر .وهو قول فريق من أهل العلم فيهم أنس بن مالك وابن عباس وطاووس والحسن البصري وسعيد بن المسيب .ويفهم من هذا القول أن هذه الآية نزلت في المدينة .وقد تمسك الإمام أبو حنفية بهذه الآية في وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من النبات ،مطعوما أو غير مطعوم .واستدل على ذلك أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر ،وفيما سقي بنضح{[1293]} أو دالية نصف العشر "وتفصيل ذلك في موضعه من تفسير سورة البقرة .
قوله:{ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} السرف ،بالتحريك: ضد القصد أو مجاوزته .والإسراف معناه التبذير ومجاوزة القصد .أو ما أنفق في غير طاعة الله{[1294]} .
وثمة تفصيل لأهل التأويل في تأويل الإسراف الذي نهى الله عنه بهذه الآية .
وذلك على جملة أقوال:
منها: أنه مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال .والتقدير: لا تتجاوزوا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء .وقالوا في هذا الصدد: إنهم كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة ثم تسارفوا .أي تباروا في الإعطاء وأسرفوا فأنزل الله الآية .
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ،إذ جذ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته .فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فقال الله:{ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} .
ومنها: أن الإسراف المنهي عنه في الآية هو منع الصدقة ( الزكاة ) وتلك معصية كبيرة .
ومنها: أن المراد بالإسراف في الآية هو الأكل من الزرع والثمر قبل الحصاد أو الجذاذ لما في ذلك من إضرار بالفقراء ببخسهم حقهم .
ومنها: أن المراد بالإسراف النفقة في معصية الله .
ومنها: أن الخطاب في الآية للولاة وأهل السلطان ،إذ نهاهم عن الأخذ من الرعية ما ليس لهم أن يأخذوه من أموالهم .
الراجح هنا ،القول بالنهي عن عموم معاني الإسراف من غير تخصيص لواحد من هذه المعاني دون غيره{[1295]} .