التّفسير
درسٌ عظيمٌ عَلى دَربِ التَوحيد:
لقد جاءَت الإِشارة في هذه الآية إِلى عدّة مواضيع ،كلُ واحد منها متفرعٌ عن الآخر ،ونتيجة عنه .
فهو تعالى يقول أوَّلا: إِنَّ الله تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات ،فمنها ما يعتمد في موقفه على الأعمدة والعروش حيث تحمل ما لذّ وطاب من الفواكه والثمار ،وتخلب بمنظرها الساحر العيون والألباب ،ومنها ما لا يحتاج إِلى عريش ،بل هو قائم على سوقه يلقي بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميّين ،ويسدّ بثماره المتنوعة حاجة الإِنسان إِلى الغذاء: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) .
لقد ذهب المفسّرون في تفسير كلمة «معروش » و«غير معروش » إِلى ثلاثة احتمالات:
1ما أشرنا إِليه قبل قليل ،فالمعروش هو الأشجار والنباتات التي لا تقوم على سوقها بل تحتاج إِلى عروش وسُقف ،وغير المعروش هو الأشجار والنباتات التي تقومُ على سوقها ولا تحتاج إِلى عروش وسُقف ،( لأنَّ العرشَ يَدلُّ على ارتفاع في شيء ،ولهذا يُقال لسقفِ البيت عرش ،ويقال للسرير المرتفع عرش ) .
2إِنّ المراد من «المعروش » هو الأشجار المنزلية وما يزرعه الناس ويُحفَظ بواسطة الحيطان في البساتين ،ومن «غير المعروش » الأشجار البرّية والنباتات الصحراوية والجبلية وما ينبت في الغابات .
3«المعروش » هو ما يقوم على ساقه من الأشجار أو يرتفع على الأرض ،و«غير المعروش » هو الأشجار التي تمتد على الأرض .
ولكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب ،هنا ،ولعلّ ذكر «المعروشات » في مطلع الحديث إِنّما هو لأجل بنيان هذا النوع من الأشجار وتركيبها العجيب ،فإِنّ نظرة عابرة إِلى شجرة الكرم وقضبان العنب وسيقانها الملتوية العجيبة ،والمزوّدة بكلاليب ومقابض خاصّة ،وكيفية التفافها بكل شيء حتى تستطيع أن تنمو ،وتثمر ،خير شاهد على هذا الزعم .
ثمّ إِنّ الآية تشير إِلى نوعين من البساتين والمزارع إِذ تقول: ( والنخيل والزرع ) .
وذكر هذين النوعين بالخصوص إِنّما هو لأهميتهما الخاصّة في حياة البشر ،ودورهما في نظامه الغذائي ( ولابدّ أن تعرفَ أن الجنّة كما تطلَق على البستان ،كذلك تطلَق على الأرض التي غّطاها الزرع ) .
ثمّ إِنّه تعالى يضيف قائلا: إِنَّ هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر والطعم .فمع أنّ جميعَها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإِن لكل واحدة منها رائحة خاصّة ،ونكهة معينة ،وخاصية تختص بها ،ولا توجد في غيرها: ( مختلفاً أُكُلُه ){[1303]} .
ثمّ يُشير سبحانه إِلى قسمَين آخرين من الثمار عظيمَي الفائدة ،جَليلَي النفع في مجال التغذية البشرية إِذ يقول: ( والزيتون والرّمان ) .
إِن اختيار هاتين بالذِكر من بين أشجار كثيرة إِنّما هو لأجل أن هاتين الشجرتين: ( شجرة الزيتون وشجرة الرمان ) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافاً شاسعاً من حيث الثمرة ،ومن حيث الخاصية الغذائية ،ولهذا عقَّب على قولَه ذلك بهاتين الكلمتين: ( متشابهاً ،وغير متشابِه ){[1304]} .
وَبعد ذكر كلّ هذه النِعَم المتنوّعة يقولُ سبحانه: ( كُلُوا من ثمره إِذا أثمَر ،وآتوا حَقَه يومَ حصادِه ) .
ثمّ ينهى في نهاية المطاف عن الإِسراف إِذ يقول تعالى: ( ولا تسرفوا إِنّه لا يحبّ المسرفين ) .
«الإِسراف » تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإِنسان .وهذه الجملة يمكن أن تكون إِشارة إِلى عدم الإِسراف في الأكل ،أو عدم الإِسراف في الإِنفاق والبذل ،لأنَّ البعض قد يسرف في البذل والإِنفاق إِلى درجة أنّه يهبُ كلَ ما عنده إِلى هذا وذاك ،فيقع هو وأبناؤه وأهلُه في عسر وفقر وحرمان !!
بحوث
1ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة
في الآيات السابقة من هذه السورة جرى حديثٌ عن الأحكام الخرافية التي
كانت سائدة بين الوثنيين ،الذين كانوا يجعلون نصيباً من الزرع والأنعام لله ،وكانوا يعتقدون بأنّ ذلك النصيب يجب أن يُصرَفَ على نحو خاص ،كانوا يُحرِّمونَ ركوب بعض الأنعام ،ويقدّمون أولادهم قرابين إِلى بعض الأصنام والأوثان !!
إِنَّ الآية الحاضرِة ،والآية اللاحقة تحملان رَدّاً على جميع هذه الأحكام والمقررات الخرافيّة الجاهلية إِذ تقولان بصراحة ،إِنّ الله تعالى هو خالق جميع هذه النِعم ،فهو الذي أنشأ جميع هذه الأشجار والأنعام والزروع ،كما أنّه هو الذي أمر بالانتفاع بها ،وعدم الإِسراف فيها ،وعلى هذا الأساس فليس لغيره أي حق لا في «التحريم » ،ولا في «التحليل » .
2ماذا تعني جُملَة
( إِذا أثمر ) مع ذكر «ثمره » قبل ذلك ؟فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين ،ولكن الظاهر أن هذه الجملة تهدف إِلى تقرير وبيان أنّ بمجرد ظهور الثمار على هذه الأشجار ،وظهور سنابل القمح ،والحبوب في الزرع يجوز الانتفاع بها حتى إِذا لم يُعطَ منها حقوق الفقراء بعدُ ،وإِنما يجب إِيتاء هذا الحق لأهله حين حصاد الزرع ،وقطاف الثمر ( يوم الحصاد ) كما يقول تعالى: ( وآتوا حقّه يوم حصاده ) .
3ما هو المراد من الحقّ الذي يجب إِعطاؤه ؟
يرى البعض أنّها هي الزّكاة الواجبة المفروضة ،أي عشر أو نصف عشر المحصول البالغ حدّ النصاب الشرعي .
بيد أنه مع الالتفات إِلى أنّ هذه السورة قد نزلت في مكّة ،وأن حكم الزّكاة نزل في السنة الثانية من الهجرة أو بعد ذلك في المدينة المنورة ،يبدو مثل هذا الاحتمال بعيداً .
وقد عُرّفَ هذا الحق في روايات عَديدة وصلتنا من أهل البيت( عليهم السلام ) ،وكذا في روايات عديدة وردت في مصادر أهل السنة بغير الزّكاة .
وجاء فيها أنّ المراد منه هو يُعطى من المحصول إِلى الفقير عند حضوره عملية الحصاد أو القطاف ،وليس له حدُّ معَين ثابت{[1305]} .
وفي هذه الحالة ،هل هذا الحكم وجوبي أم استحبابي ؟
يرى البعض أنه حكم وجوبي ،أي أنَّ إِعطاء هذا الحق كان واجباً على المسلمين قبل تشريع حكم «الزّكاة » ولكنّه نسِخ بعد نزول آية الزّكاة ،فحلّت الزّكاة بحدودها الخاصّة محل ذلك الحق .
ولكن يُستفاد من أحاديث أهل البيت( عليهم السلام ) أن هذا الحكم لم ينسَخ ،بل هو باق في صورة الحكم الاِستحبابي ،وهذا يعني أنه يُستحبُّ الآن إِعطاء شيء من المحاصيل الزراعية إِلى من يحضر عند حصادها وقطافها من الفقراء .
4يمكن أن يكون التعبير بكلمة «يوم » إِشارة إِلى أنه يُحَبّذ أن يوقَع حصاد الزرع ،وقطاف الثمر في النهار حتى إذا حضر الفقراء يعطي إِليهم شيء منها ،لا في الليل كما يفعل بعض البخلاء لكيلا يعرفُ أحدٌ بهم .
وقد أكّدت الرّوايات الواصلةُ إِلينا من أهل البيت( عليهم السلام ) على هذا الأمر أيضاً{[1306]} .