{جَنَّتَيْنِ}: بستانين .
{وَحَفَفْنَاهُمَا}: أحطناهما .
الإيمان هو الثروة الحقيقية
وينطلق القرآن في الاتجاه المتمثل في رفض اعتبار الثروة المالية قيمةً حياتيةً كبيرةً بعيداً عن الإيمان ومسؤوليته ،فيصوّر لنا صورة رجلين ،يملك أحدهما الثروة والجاه والولد ،بينما لا يملك الآخر ما يملكه صاحبه ،ولكنه يملك الإيمان بالله ،والإحساس بعظمته وبفضله على الإنسان في كل شيء ،ما يجعله يحسُّ بنعم الله عليه في كل مظهر من مظاهر وجوده ،ويعرفإلى جانب ذلكقيمة الحياة ودورها ووظيفتها في مسؤولية الإنسان ،فلا يستسلم لنعيمها ،ولا يضعف أمام شقائها ،لأنه يعلم أن ذلك كله بيد الله ،الذي اقتضت حكمته أن يزول ذلك كله ،فلا يبقى للإنسان منه إلا النتائج العملية لما قام به من دور في الحياة .
وبهذا يتجسّد لنا الفارق الكبير بين العقليتين والاتجاهين في فهم الحياة ،من خلال الحوار الذي أداره القرآن الكريم بين الرجلين ،لنستوحي منه الفكرة التي تحكم الموقف في حساب القيم والمعاني الكبيرة في الإسلام .
إنها الصورة الرائعة التي يجسّدها لنا القرآن في أسلوبه الرائع .فنحن نرىفي الصورةأن صاحب الجنتين قد بدأ الحوار مع صاحبه من موقع الإحساس بالقوة والفوقية والامتياز ،بسبب ما يملك من كثرة المال والأتباع ،فكان خطابهمعهينطلق من محاولته لإخضاعه نفسياً ،بمواجهته بواقع الفارق الكبير بينهما ،وتميزه عنه .
{وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} من هذا المجتمع المتنوع المتناقض ،الذي يحمل في داخله الكثير من العقليات المختلفة في مسألة وعي القيم المادية والروحية في الحياة ،فهناك الذين يعتبرون المادة كل شيء ،فهي الأساس في المستوى الكبير والصغير في قيمة الإنسان ،وهي العمق الذي تكمن فيه المشاعر الإنسانية التي تحكم العلاقات ،وهناك الذين يعتبرون القيمة الروحية الأساس في احتواء العلاقات الإنسانية ،والتحكم في حركة الواقع ،والارتفاع به إلى المستوى الأعلى في الحياة عندما ترتفع في وجدان الإنسان ،أو تنخفض به إلى المستوى المنحدر فيها ،مما يؤثر سلباً على مشاعره .وهكذا يتقابل هذان الرجلان أمام التناقض في المشاعر والمواقف في ما يتمثل به واقع كل منهما في طبيعة العيش .وقد أراد الله أن يصور لنا هذين الرجلين اللذين{جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} ،حيث تتهدل العناقيد كمثل اللآلىء في أعالي الكروم ،{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} يحيط بهما فيعطيهما جمالاً وشموخاً وارتفاعاً ،{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} تخضرُّ به الأرض وتزهو وتزدهر وتنتج الكثير مما يغذي الروح والجسد والبصر ...