الفئة المؤمنة تأخذ دروساً:
[ ثُمَّ أنزل عليكم من بعد الغمِّ أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم] وعاد البعض إلى رسول اللّه ،وهم يعيشون هذه الصدمة الكبيرة ،ويقارنون بين أسباب الهزيمة ونتائجها ،وشعروا بالتقصير والندم ،وبدأوا في التخطيط لحسابات المستقبل .وكان لا بُدَّ من حالة استرخاء يستريحون فيها من متاعب المعركة وانفعالات الندم ،ليملكوا زمام تفكيرهم ،فألقى عليهم النعاس ليعيشوا الإحساس بالأمن والطمأنينة ،فتتجدّد لهم طاقاتهم التي أتعبها الجهد ،وتصفو أفكارهم التي كدرها الألم ،وترتاح أعصابهم التي أرهقها الانفعال ،فغابوا في سباتٍ عميق يفصلهم عن كلّ هذه الأجواء الخانقة من التوتر والرُّعب والانفعال ...وتلك هي الفئة المؤمنة التي لا تفقد صوابها ،ولا ترتاب في إيمانها ،ولا تتزلزل في مواقفها أمام الصدمات والتحدِّيات والهزائم ،بل تقف من جديد ،لتفكّر في المستقبل من خلال دروس الحاضر ،ولتواصل المسيرة وتعتبر أنَّ كلّ ما حدث ما هو إلاَّ تجربة وامتحان واختبار قد يفشل الإنسان فيه وقد ينجح .ولكن القضية في كلا الحالين تمثِّل العبرة التي يستفيد منها الفاشل كيف يتفادى الفشل في المستقبل ،ويتعلّم منها الناجح كيف يمكن أن يستزيد من فرص النجاح في الحياة .
النموذج الفاشل والهموم الذاتية:
[ وطائفةٌ قد أهمَّتهُم أنفُسُهُم] وهناك طائفة أخرى قد أهمَّتهُم أنفسهم ،فهي المحور الذي يدورون حوله في حركة الحياة ،فهم يفكّرون في سلامتها وراحتها بعيداً عن أي هدف كبير يدفع الإنسان إلى الجهد والتعب والتضحية ؛فإذا فكروا بالنصر في معركة ما ،فإنَّهم يفكّرون فيه من حيث هو وسيلة للحصول على الغنائم والأسلاب ،وإذا فكروا بالهزيمة ،فإنَّهم يتفادونها لأنَّها تمثِّل خطّاً أسود في تاريخ حياتهم الذاتي ،وموقفاً يسيء إلى بعض الأنانية الذاتية في مواقعهم العامّة .وهكذا يختنقون في سجن الذات ،فلا يتنفسون هواء الإنسانية الممتد في رحاب اللّه ،وعلى أساس هذا المحور الذي تدور حياتهم حوله ،فإنَّهم [ يظنُّون باللّه غير الحقِّ ظنَّ الجاهلية] فلا يستسلمون له استسلام العبد الواثق بربِّه المطيع له ،العالم بأنَّ اللّه لا يريد به إلاَّ الخير ،وأنَّ الشرّ عندما يطوف بحياة الإنسان ،فإنَّما هو امتحان واختبارٌ منه سبحانه له ؛بل كلّ ما عندهم هو أن يمنحهم اللّه الخير والرزق والبركة ،فإذا منع ذلك عنهم تمرّدوا وانحرفوا ،فهم لا يتصوّرون اللّه إلاَّ من خلال منافعهم ،كما أنَّهم يعملون على إثارة الشك والريب بالنبيّ وبالإسلام إذا عرضت بعض الانتكاسات في ساحة السلم أو الحرب ،انطلاقاً من الفكرة الخاطئة التي يعتنقونها في مرادفة النصر للحقّ ،والهزيمة للشك والريب والتزلزل ...
وهكذا كانت ظنونهم منطلقةً في الاتجاه المادي للحياة ،وهذا من ظنون الجاهلية التي تبتعد عن الحقّ في خطّها الفكري وتصوّرها عن اللّه والكون والإنسان ،لأنَّ التصوّر الحقّ ،هو أنَّ اللّه يجري الأمور على أساس سننه الحتمية التي ترتكز على قاعدة أساسية ،وهي ملاحظة المصلحة العميقة للإنسان على مستوى الامتداد الشامل لجوانب حياته ،فقد تكون هناك مصلحة في إثارة العقبات أمام شخص أو جماعة ،من أجل أن يكون ذلك وسيلة من وسائل تقوية المواقف وتركيز الشخصية ونضوج التجارب ،وقد تكون المتاعب في البداية سبيلاً للحصول على الراحة في النهاية مما لا يحيط بعلمه إلاَّ اللّه الذي عنده [ مفاتح الغيب لا يعلمها إلاَّ هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلاَّ يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابس إلاَّ في كتاب مبين] ( الأنعام:59 ) .
[ يقولون هل لنا من الأمر من شيء] إنَّهم يثيرون هذا التساؤل أمام نتائج المعركة ،ليسجلوا نقطةً على النبيّ ( ص ) وأصحابه عندما انطلقوا في خطّ المعركة ولم يستمعوا إلى النصائح التي كان يقدّمها رأس النفاق في المدينة في عدم الخروج إلى القتال ،فكأنَّهم يقولون إنَّه لا رأي لمن لا يُطاع ،من أجل التخلص من تحمّل نتائج العمل في طبيعة المسؤولية ،لأنَّهم لم يشاركوا في اتخاذ القرار ،ولولا الإحراج الذي واجهوه من قومهم ومن النبيّ لما شاركوا في الحرب .
ويأتي الجواب حاسماً: [ قل إنَّ الأمر كلّه للّه] فماذا يمثِّل هؤلاء ليكون لهم الأمر كلّه ؟!إنَّهم لا يمثِّلون شيئاً في حجم القوّة والعلم والحركة ،بل إنَّ الأمر للّه ،فهو الذي يخطّط ويدبّر ويأمر وينهى ويوجه رسوله والمؤمنين نحو الوقوف في وجه الكفر والطغيان ،وهو الذي يعرف ما يصلحهم وما يفسدهم ،وما يضرهم وما ينفعهم ،لأنَّ ذلك كلّه بيده ،فهو الذي يملك الأمر كلّه ،وإذا أراد شيئاً فلا بُدَّ من الخضوع والطاعة والانقياد أمام إرادته .
[ يُخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك] فقد دخلوا المعركة بقلب مغلق ينطوي على الشك والريب والنفاق ،ولم يدخلوها بقلبٍ مفتوح ينفتح على اللّه في صراحةٍ صافيةٍ تعرف ماذا تريد ،وتصارح الأخرى بكلّ شيء ،حتّى لا تعيش الزيف باسم الإخلاص ،ولا تتحرّك في الشك باسم اليقين ؛ولذلك فإنَّهم يضمرون لك يا محمَّد الكيد والمكر والمعصية ،ويظهرون لك الطاعة والخير والإخلاص .
[ يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُتلنا ها هنا] فهم يعتبرون أنفسهم قادرين على تغيير مسير المعركة في جميع نتائجها ،أو بالأحرى قادرين على التحكم في مصير حياة أنفسهم وموتها ،فلو ترك لهم الأمر ،ولم تفرض عليهم الضغوط ،لكانوا في بيوتهم التي خرجوا منها في المدينة ،ولما تعرّضوا للخطر الذي تعرّضوا له الآن .
وربَّما كان مرادهم أنَّهم لو كانواكمسلمينعلى الحقّ لانتصروا وكسبوا المعركة ولم يخسروا ما خسروه من أرواح وأموال ،كأنَّهم يريدون أن يبثّوا الريب والشك في الإسلام نفسه ،وفي نبوّة النبيّ محمَّد ( ص ) .
ولكن اللّه سبحانه يواجههم بالحقيقة الكونية التي لا تجعل قضية الحياة والموت خاضعة لاختيار الإنسان بجميع أبعادها ،بل هناك أوضاع وظروف قد تقود الإنسان إلى نهايته بعيداً عن جانب الرغبات الذاتية ،لأنَّ اللّه سبحانه لم يجعل الآجال تابعة دائماً لعنصر الاختيار ،فربَّما تتدخل فيها بعض العوامل غير الاختيارية [ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم] انطلاقاً من الأجواء الداخلية أو الخارجية التي تبعث في داخلهم الرغبة في الخروج تحت تأثيرات غامضةٍ ،كما لو كانت هناك قوّة خفية تسيطر عليهم وتدفعهم إلى مصيرهم المحتوم ،فلا مجال بعد ذلك للتعلّل ببعض الجوانب الذاتية الخاصّة .
مفهوم الابتلاء في الإسلام:
[ وليبتلي اللّه ما في صدوركم] ويختبركم بإظهار ما تخفونه من نوايا سيئة ،حتّى لا ينخدع النَّاس بالجانب الظاهري من حياة الآخرين ،فيستسلموا للخديعة في علاقتهم ببعضهم البعض .
[ وليُمحِّص ما في قلوبكم] وتلك هي فائدة المحن والنكبات التي تحدث للإنسان ،فإنَّها تمحِّص ما في قلبه ،فتعزل الخبيث عن الطيب ،وتكشف الإيمان الثابت من الإيمان الطارئ المستودع .
[ واللّه عليمٌ بذات الصُّدور] فلا يحتاج في معرفته بدخائل النَّاس إلى دليل ،لأنَّه المحيط بالأشياء الخفيّة من نوايا الإنسان ،كما هو محيط بالأشياء الظاهرة منها ...
وهذا هو المفهوم الإسلامي للابتلاء الذي يبتلي به اللّه عباده ،فليس هوفي جميع مظاهرهنقمةً وعذاباً ،بل قد يكون رحمةً يبني بها اللّه للإنسان شخصيته الصلبة من خلال المعاناة التي يُعانيها أمام البلاء ،كما يكشف له طبيعة المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تعيش في داخله ،فيكتشف الزيف من الإخلاص ،ويعرف الأشياء العميقة في داخل كيانه من الأشياء الطافية على السطح .
وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الدعوة إلى اللّه وفي حقل التربية الإسلامية أن يواجهوه في ما يخوضونه من تحدِّيات ،وما يواجهونه من عقبات وصراعات ،وما يدفعون إليه العاملين الآخرين من مهمّات ومسؤوليّات ،فقد يكون من الأفضل أن لا ينهزموا أمام المصاعب ،وأن لا يتعقدوا منها .كما قد يكون من الخير لهم أن يوكلوا إلى العاملين معهم بعض القضايا التي تثير المتاعب والمشاكل في بعض مراحل الطريق من أجل بناء شخصيتهم الإسلامية بالصدمات القوية التي توقظ في داخلهم حسّ المواجهة للأخطاء والانحرافات ،وتدفعهم إلى الوقوف بقوّة أمام الأعاصير القادمة من بعيد ...