الله تعالى عاصم لنبيه من الضلال
9{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيء وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .
هؤلاء الناس الذين يملكون مواقع اجتماعية ،وحصلوا على الثقة لدى الناس في ظاهر أمرهم ،ودخلوا في الإسلام ؛كانوا يحاولون بمختلف أساليبهم أن يصوروا الأمر للرسول( ص ) كما لو كان حقيقة ،من خلال البينات التي أقاموها والأجواء العاطفية التي أثاروها والضغوط النفسية التي حشدوها ،والتي أرادوا من خلالها أن يقنعوا رسول الله( ص ) ببراءة السارق الحقيقي وجريمة البريء لينحرفوا بالقضية من خط الهدى إلى خط الضلال ؛
ولكن الله يلهم نبيّهفي الحالات الصعبة التي تمثل جانباً من الخطورة في حركة الإسلام في الحياةويعرّفه واقع الأمور من خلال الغيب ،ليكشف له وجه الحق ،لأن الاعتماد على الوسائل العادية التي يتبعها القضاء الإسلامي من الإيمان والبينات ،قد تخطىء السبيل إلى النتائج الحقيقية ،في ما يملك الناس أمر التلاعب فيه ؛وربما كانت بعض المراحل لا تتحمل الخطأ الذي قد تتحمله مراحل أخرى ،مما يستدعي التدخل الغيبي .وهكذا أوحى الله لنبيه بالحق ،فلم يستطع هؤلاء القوم أن ينحرفوا بحكم النبي( ص ) عن وجه الحق ،ولكنهم هم الذين ضلوا بانحرافهم في شهاداتهم الباطلة ،وفي دفاعهم عن المجرم واتهامهم للبريء ؛وذلك من فضل الله ورحمته على رسوله وعلى الأمّة ،كما كان من فضله عليه أن أنزل عليه الكتاب الذي يفصّل له حقائق الحياة ،في ما تريد أن تبلغه من النمو والسمو والتقدم والسلام ،وأنزل عليه الحكمة ،في ما يتحرك فيه من مواقف قيادية ونظرات عملية يضع فيها الأمور في مواضعها ،وألهمه وعلّمه علم ما لم يكن يعلم من كل الأمور التي يحتاج إليها في رسالته من الناحية الفكرية والتطبيقية ،ورفعه أعلى الدرجات ؛وكان فضل الله عليه عظيماً .
وقد نستوحي من هذه الآية أن على الإنسان ،الذي يتحمل أية مسؤولية في حياة الناس ،أن ينتبه إلى هذه النماذج القلقة التي تعمل على تضليل القادة وإبعادهم عن خط العدل بمختلف الأساليب والوسائل الضاغطة ،مما يدفعنا إلى التدقيق في طبيعة الطروحات التي يطرحونها والشهادات التي يشهدونها ،ليكتشف الإنسان منها بعض الخفايا الدقيقة من وسائلهم ،لا سيّما في المسائل التي تتصل بصورة العدالة الإسلامية ،مما هو مماثل لهذه القضية التي نزلت هذه الآيات فيها ؛فإن الناس قد يتحمسون كثيراً لاتهام الأشخاص الذين يخالفونهم في العقيدة ،أو في الاتجاهات المتنوعة التي تقسم الناس إلى فرقٍ وشيعٍ وأحزابٍ ،كما يعملون على تبرئة الأشخاص المرتبطين بهم بأية صلةٍ عاطفيةٍ أو فكريةٍ أو غير ذلك ...
ولا بد لنافي الوقت ذاتهأن نثق بالله عندما نسير على الخط المستقيم ،لنعرف أنه سينقذنا من ضررهم ،فلا يأخذنا الرعب والهلع من مكانتهم الاجتماعية ،في مواجهة كل خططهم الشيطانية بما يحفظ للعدل قوّته ودوره في حفظ مصالح الناس الحقيقية .
هل الآية دالة على العصمة بمعناها الفلسفي ؟
جاء في تفسير الميزانللعلامة الطباطبائيأن الآية وهي قوله تعالى:{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} تدل على العصمة من حيث أنها توحي بأن الله سبحانه وهب نبيه العصمة ،وهي «سبب شعوري علميّ غير مغلوب البتّة ،ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرّب إليها التخلّف ،وخبطت في أثرها أحياناً ،فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلّم ،وقد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خصّ به نبيه( ص ) بقوله:{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه ،إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور ،غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله:{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [ البقرة:97] وقوله:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ} [ الشعراء:193195] أن الإنزال المذكور من سنخ العلم ،ويظهر من جهةٍ أخرى أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم كما يظهر من قوله:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [ الشورى:13] وقوله:{إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [ النساء:163] وقوله:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ} [ الأنعام:50] وقوله:{إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ} [ الأعراف: 203] » .
ونلاحظ أن دراستنا للآيات المماثلة لهذه الآية توحي بأنّ المراد من العلم الذي لم يكن يعلمه ،هو ما قصه عليه من أخبار الأولين والكتاب والحكمة ،بحيث تكون جملة{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} بمثابة التفسير للجملة الأولى ،للإيحاء بأن ما أنزله الله عليه كان جديداً على وعيه العلمي ،وهذا هو ما جاء في قوله تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا}[ هود:49] وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} [ الشورى:52] فإن الظاهر من الآيتين أنهما تتحدثان عن أن هذا العلم الذي وهبه الله لنبيه مما يتعلق بأنباء الغيب والكتاب والإيمان ،لم يكن مما يعلمه النبي محمد( ص ) قبل ذلك ،أمّا تفسير كلمة{رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} بروح القدس التي تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة ،فهو غير ظاهر من الآية ،لا سيما أن الله جعلها موضوعاً لوحيه ،مما يدل على أنها من نوع المعرفة التي يلقيها الله بالوحي على نبيه من أمره الذي هو سرّه وشأنه .وعلى كل حال ،فإنه لم يأت بدليلٍ على أن هذا العلم الذي علّمه الله لنبيّه من الأمور التي لا نفقهها ولا ندركها ،باعتبار أنها سرّ الله ،الذي يختلف عن الكتاب والحكمة إلا من جهة العطف بالواو الذي يدل على التغاير ،ولكنهبقرينة الآيات الأخرىظاهر في العطف التفسيري لبيان نكتة مهمة ،وهي أن ما أوحى به الله إليه لم يكن معلوماً عنده .
أمّا الاستدلال عليه بأن مورد الآية ،قضاء النبي( ص ) في الحوادث الواقعة والدعاوى التي ترفع إليه ،برأيه الخاص ،وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ،وإن كان متوقفاً عليها ،بل هو رأيه ونظره الخاص ؛فهو غير دقيق ،لأن رأيه الخاص ليس حالةً ذاتيةً تنطلق من علمٍ غيبيٍّ خفيٍّ لا يعلمه أحد ،لأنه لا يحكم إلا بالوسائل الشرعية التي وضعها الله بين يديه مع مراعاة الخطوط التشريعية التي تمثل الأحكام المتصلة بالقضايا العامة والخاصة للناس ،وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عنه( ع ) أنه قال: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض ،فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار »[ 9] ،مما يوحي بأن ما ذكره العلامة الطباطبائي حجة على اختلاف مدلول قوله تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} عن الكتاب والحكمة ،غير صحيح ،لا سيما وأننا نعرف أن القضايا التي يختلف فيها الناس تتحرك في دلائلها من خلال الواقع الخارجي الذي تتناثر فيه وقائع الأمور .
إننا نؤكد عصمة النبي محمد( ص ) لأن دوره الرسالي الذي ينطلق من إرادة الله له تغيير الإنسان على أساس الحق ،لا يمكن أن يتناسب مع بناء شخصية الرسول على غير الحق ،بحيث يمكن أن يعرض لفكره ولعمله .
إن الرسول ليس مجرد مصلح ينطلق من ذاته ليخضع للخطأ والصواب ذاتياً ،بل هو الإنسان التغييري على قاعدة روحية الحق كله في الوعي والممارسة .أمّا الاستدلال عليها بهذه الآية ،فهذا مما لا نفهمه منها ولا دلالة للفظ في الآية عليها ؛والله العالم .