وإذا كان مصير الإنسان الأخروي متعلقاً بالعمل الصالح وغير الصالح ،فما الذي يحدّد لنا هذا أو ذاك ،هل هو التقييم الذاتي للأشياء ،أم أنَّ هناك برنامجاً إلهيّاً يحدّده الله لرسله ،ويبلّغه الرسل لأممهم ؟
إن هذه الآيات تشرح لنا أن الله لم يترك الناس لأنفسهم ليختلفوا في ما بينهم ،بل أنزل الرسالات في كتبه ليوحّد لهم النظرة ،وليحدّد لهم منهج خط السير .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَني إِسْرَائيلَ الْكِتابَ} الذي أنزلناه على موسى ،وهو التوراة المشتملة على الشريعة الإلهية التي تبين للناس الحلال والحرام .ويمكن أن يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والزبور ،باعتبار أنها كتبٌ أنزلت على بني إسرائيل الذين بعث فيهم موسى وعيسى وداود ،لأن المقصود بالكتاب هو الوحي المنزل على الرسول ،ولكن بعض المفسِّرين يلاحظ على ذلك بأن الكتاب لم يطلق في القرآن إلاَّ على ما يشتمل على الشريعة ،وهذا ما لا ينطبق إلا على التوراة ،لأن الإنجيل لا يتضمن الشريعة ،أما الزبور فإنه يشتمل على الأدعية والأذكار ،{وَالْحُكْمَ} الذي يفصل بين الناس في ما يختلفون فيه عند تطبيق القضايا الكلية التي حدّدها الكتاب على القضايا الجزئية والمنهاج الذي حدّد الله فيه الوسائل التي يتحرك فيها القضاء ،ويمكن أن يشمل الحكم المعنى المعروف للولاية العامة للناس على أساس أن أهميته في تثبيت النظام العام قد تكون أكثر من القضاء المعروف في القضايا الجزئية ،لأن استقامة الحكم ،واستقامة الحاكم في شخصه ،وفي منهجه العملي ،هي التي تزيل كثيراً من المشاكل التفصيلية في الحياة العامة ،نظراً لعدالة النظام وسلامة التطبيق ،الأمر الذي يجعل من البعيد أن يهمله الله في تخطيطه التشريعي للحياة ،{والنبوّة} التي جعلها الله خطاً ممتداً في حياة هؤلاء الناس بتعدد الرسل الذين ذكرهم الله لنا في كتابه .وهذه هي نعمة الموقع الفكري الذي يحرّك الوعي في خط المسؤولية ،ويحرّك المسؤولية في الرسالة ،من خلال شخصية النبي والحاكم والداعية .
تفضيل بني إسرائيل
{وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} في تنوّع موارد الرزق ،في ما يستطيبه الناس من ألوان الطعام والشراب ،{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ} من خلال الموقع والدور والنعمة ،لا من خلال القيمة الذاتية ،التي تتحول في الوعي إلى حالةٍ عنصريةٍ معقّدة ،فقد أعطاهم الله النعمة الوافرة ،والنبوّة والكتاب والحكم ليأخذوا بالهدى من خلالها ،وليشكروا الله على ما أولاهم من نعمه ،فلما انحرفوا عن الخط المستقيم في ذلك كله ،ذمّهم الله ولعنهم ،وابتلاهم بألوان البلاء ،لأن الله لا يفضِّل أحداً لذاته ،بل يمدّه بمواقع الفضل إذا ما أخلص في العمل وفي العبادة لله .وعلى ضوء ذلك ،فلا مجال للقول إن الله قد أعطى بني إسرائيلكقومٍقيمةً روحيةً ومعنويةً خاصةً ،بما يؤكد مقولتهم التي يدّعون فيها أنهم شعب الله المختار ،فإننا نلاحظتعليقاً على ذلكأن الله قد ردَّ عليهم ذلك في قوله تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ} [ المائدة:18] وقوله تعالى ،في سورة الجمعة:{قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [ الجمعة:6 7] وقوله تعالىفي بيان الخط العام للمسؤولية بعيداً عن طبيعة الانتماء:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}[ النساء:123] وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن تمرد بني إسرائيل ونقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء بغير حق ،ما يوحي بأن المسألة لا ترتفع إلى مستوى التقييم الخاص ،بل تبقى في مستوى الواقع .