{وَآتيناهُم بَيِّناتٍ مِّنَ الأَمْرِ} من الآيات الواضحة الدالة على الحق من دون أيّ شك أو شبهة مما لا يدع مجالاً للخلاف ،ولكنهممع ذلك كلهاختلفوا لا بسبب غموضٍ القضية الرسالية ،بل عن عقدةٍ سببها نوازع البغي الكامنة في ذواتهم .
{فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} عندما يتحول العلم في شخصية العالم إلى نوعٍ من الزهو والخيلاء الذي يبحث فيه الإنسان عن تأكيد نفسه بالانتفاخ كبرياءً ،فيؤدي ذلك إلى أن يواجه الأمور بطريقةٍ تثير التعقيدات ،وتضع الفواصل داخل الفكر الواحد ،ليتحوّل إلى فكرين ،يختلف الناس حولهما ،ليلتزم كل منهم الموقع الذي يفصله عن الآخرين .وهكذا يتحول العلم إلى حالةٍ شيطانيةٍ باغيةٍ ،تفرز العداوة والبغضاء ،وتخدم مراكز الوجاهة الاجتماعية والثقافية والسياسية داخل المجتمع الواحد ،فهو يصوغ للخلافات نظرياتٍ علمية تدعم هذا الخط ،بحيث يبدو كما لو كان في العمق هو التجسيد الفعلي للحقيقة الدينية ،وتدعم ذاك بالمستوى نفسه ،ليتحوّل الدين إلى دينين تضعه العصبية المذهبية في هذا الجانب أو ذاك ،لينقسم المجتمع على أساس الصفة المذهبية التي يكفر فيها أهلُ هذا المذهب أتباعَ المذهب الآخر ،من خلال التحليلات والتدقيقات والحواشي والتأويلات التي يثيرها الخبث العلمي ،لا الطهارة الفكرية .
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فهم لا يستطيعون هناك التعلّق بما كانوا يتعلقون به من المبرّرات الخلافية على أساس القاعدة العلمية المزعومة ،بل يواجهون الحقيقة الواحدة التي أوحى بها الله إلى رسله من دون زيادةٍ ولا نقصان ،وقد كانوا يستطيعون اكتشافها من خلال المنهج الذي جعله الله أساساً من أسس الوصول إلى الحق ،ولكن روح البغي كانت تمنعهم عن ذلك .