{يَا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} فذلك هو معنى الإيمان الذي يحرّك المسؤولية في نفس المؤمن ،في ما يوحي إليه ،بأن من المفروض عليه أن يعبّر عن إيمانه بالله بطاعته في ما أمره به أو نهاه عنه ،لأن ذلك هو مظهر العبودية الحقّة الذي يجسده الشعور بحضور الله الدائم في كل حياته ،والخضوع له في كل شيء ،أمّا طاعة الرسول ،فهي المعنى العميق لطاعة الله ،لأن الرسول لا يأمر من حالةٍ ذاتية ،بل من موقعه الرسالي .
{وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} بالكفر والنفاق والصدّ عن سبيل الله ،والاتجاه إلى طاعة غيره مما يبتعد بكم عنه ،ويجعل أعمالكم هباءً ،لأن العمل الذي لا ينطلق من روحيّة الإيمان بالله ،ومن الالتزام بنهجه ،ومن الإخلاص له ،لا يرتبط بالله ،ما يجعله غير ذي معنًى في مضمون الطاعة ،الأمر الذي يؤدي إلى بطلانه .فكأن الآية توحي بأن عمل المؤمن كي يكون صحيحاً ،لا بد من أن يأتي طاعةً للرسول بالانفتاح على الشرع والقرآن ،لأن ذلك هو مقياس صحة الأعمال .وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة ،أن المقصود بها هو عدم الإتيان ببعض الأعمال التي تسقط الأعمال السابقة وتبطلها باعتبار تأثيرها السلبي عليها ،وقد روي عن أبي العالية قال: «كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ،كما لا ينفع مع الشرك عمل ،حتى نزلت{وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} ،فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم ،وعن حذيفة: فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم »[ 1] .
وعن ابن عمر قال: «كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً ،حتى نزل:{وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} ،فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟فقال: الكبائر الموجبات والفواحش ،حتى نزل:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} ( النساء: 48 ) ،فكففنا عن القول في ذلك ،فكنّا نخاف على من أصاب الكبائر ،ونرجو لمن لم يصبها »[ 2] .
فإذا صحّت أمثال هذه الروايات ،فإنها تدل على أنّ المسلمين الأوائل من الصحابة كانوا يفهمون المسألة بهذه الطريقة .وقد نستفيد من بعض الروايات ،أنّ هذا الفهم لم يكن بعيداً عما ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم )على تقدير صحتهفقد جاء عن الصادق ( عليه السلام ) قال: «قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ): من قال: سبحان الله ،غرس الله له بها شجرة في الجنة ،ومن قال: الحمد لله ،غرس الله له بها شجرةً في الجنة ،ومن قال: لا إله إلا الله ،غرس الله له بها شجرة في الجنة ،ومن قال: الله أكبر ،غرس الله له بها شجرة في الجنة .
فقال رجل من قريش: يا رسول الله ،إن شجرنا في الجنة لكثير ،قال: نعم ،ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها ،وذلك أن الله عز وجل يقول:{يا أيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} »[ 3] .
وقد استدل بها الفقهاء على حرمة إبطال الأعمال بعد الشروع فيها ،وفرّعوا عليه حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها .
وذكر بعضهم أن الأعمال لا تبطل بالإتيان بالمعاصي بعدها ،لعدم ارتباط الأعمال ببعضها البعض في مجال الطاعة أو القبول ،لأن لكل أمرٍ طاعته وعصيانه ،وبطلانه وصحته في دائرته الخاصة ،ولذلك أنكر هذا البعض الإحباط في العمل في الدائرة الإيمانية ،وأبقاه في دائرة الكفر الذي يعقب الإيمان ،لأن الكفر يلغي العمل كله .
وهناك أقوالٌ أخر تتحدث عن مفردات الأعمال الخاصة التي تؤثّر بالبطلان .وجاء في تفسير الميزان ،أن «المراد بحسب المورد ،من طاعة الله ،طاعته في ما شرّع وأنزل من حكم القتال ،ومن طاعة الرسول ،طاعته في ما بلَّغ منه وفي ما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه ،وبإبطال الأعمال ،التخلف عن حكم القتال ،كما تخلف المنافقون وأهل الردة »[ 4] .
ولكننا نلاحظ أن الظاهر من الآية ورودها في مقام بيان القاعدة الكلية للمسألة ،ليترتب عليها الفروع الصغيرة ،في ما يبتلى به المسلمون من ذلك ،ولعلّ ما ذكرناه في تفسيرها هو الأقرب إلى جوّ الآية التي تريد أن تجعل الأعمال التي يقوم بها المسلمون في دائرة الأقرب إلى طاعة الله وطاعة الرسول ،حتى لا يكون جهدهم ضائعاً وعملهم باطلاً ؛والله العالم .