{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِايَاتِنَآ} أمَّا هؤلاء الَّذين ابتعدوا عن مواقع رحمة الله بعد أن دعاهم الله إليها وتمرّدوا في روحٍ عدوانيةٍ كافرةٍ ،أمَّا هؤلاء فهم أصحاب الجحيم{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
الديانات السماوية وعقد أصحابها
وهكذا نستوحي من هذه الآيات ،أنَّ المشكلة الّتي يعانيها أصحاب الديانات السماويّة ،في ما يختلفون فيه ،ليست مشكلة الفكر الَّذي يتنازعون في صحته وفساده ،وليست مشكلة الشريعة الّتي يختلفون في صوابها وخطئها ،بل هي مشكلة الروحيّة الّتي يواجهون بها بعضهم البعض .فقد ينطلق البعض من موقع العقدة الّتي تحاول أن تتداخل بسلبياتها الخانقة في كل فكر وكل أسلوب ،لتنحرف به عن مساره الطبيعي في حالة المواجهة الفكريّة ،فيتحوّل الأمر إلى حرب بين العواطف والتشنجات بدلاً من أن يكون حواراً بين الأفكار ،ويلف الموضوع ذلك الضباب النفسي الحائل دون وضوح الرؤية ،ما يؤدي إلى التشاحن والتباغض ،فالحرب في نهاية المطاف .وقد ينطلق البعض من موقع الفكرة الّتي تتطلع إلى الوضوح ،فتواجه الفكر بالفكر الَّذي يُناقش ويُحاور من أجل أن يكتشف المناطق المجهولة لديه ،أو يكشف للآخرين المناطق المجهولة عندهم ،ليقف الجميع ،من خلال ذلك ،على أرض الحقيقة الّتي يلتقي عليها كلّ النَّاس الَّذين يعيشون الشوق الروحي إلى المعرفة ،وهذا ما يهدف إليه الإسلام في أسلوبه الفكري ،في الدعوة إلى الحوار ،بالروحيّة الّتي لا تتحرّك من خلفيات العقدة ،بل تعيش انطلاقات الفكرة الباحثة عن الوضوح في رحلة البحث عن الإيمان ،فلا يتحوّل الاختلاف إلى عداوة تتعمّق بالممارسات السلبيّة ،بل يتحوّل إلى تجربةٍ حيّةٍ صادقة تفتح الطريق إلى صداقة فكريّة تتأكد بالكلمات والمواقف الإيجابيّة .
التواضع للحق أساس الانفتاح على الآخر
وقد يكون من الأفكار التي نستوحيهامن هذه الآياتأنَّ هذه المودّة القريبة الّتي يقررها القرآن الكريم ،في موقف النصارى من المسلمين ،كانت بسبب هذه الروحيّة المتواضعة المنطلقة الّتي يعيشها القِسِّيسون والرُهبان في ما يستلهمونه من تعاليم الإنجيل ،وما يستوحونه من ابتهالات التأمل بين يدي الله .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإنَّها تعود إلى الانفتاح الفكري والروحي على الأفكار والآفاق الجديدة التي يطرحها الآخرون من خلال آيات الله ،فلا يواجهونها بالرفض السريع ،بل بالتأمل الدقيق والفكر العميق ،وفي ضوء ذلك ،نستطيع أن نشير إلى عدة نقاط في الموضوع:
أولاً: إنَّ ذلك يدفعنا إلى إفساح المجالدائماًللانطلاق بالواقع إلى هذا الجوّ ،فنعمل على إثارة المعاني الروحيّة في أخلاقيات النصرانيّة المستمدة من الإنجيل من أجل اكتشاف مواطن اللقاء في ما يلتقي فيه الإسلام والنصرانيّة من مفاهيم في الإيمان والحياة ،ليكون ذلك أساساً لاحتواء كل السلبيات الّتي تتحرّك في الساحة فتدفعها إلى التعقيد والارتباك .وبذلك يُمكن للعاملين أن يبدأوا في عملية الإعداد لإيجاد الأرضية الصلبة الّتي تؤدي إلى الوقوف المشترك ،في موقف الاتحاد أو التفاهم .
ثانياً: إنَّ هذه الفكرة توحي لنا بالابتعاد عمّا تعارف عليه النَّاس من أساليب المجاملة الخادعة الّتي تُحاول أن تتغافل عن كل السلبيات بطريقة سطحيّةٍ مائعةٍ تواجه المشكلة في مستوى اللحظات السريعة ،لننطلق إلى الدراسة الهادئة الدقيقة ،الّتي تعمل على التعامل مع الموقف ،من خلال المعطيات الواقعيّة الموجودة في الساحة فتُثير الإيجابيات في بعض المواقع ،وتُشير إلى السلبيات في بعض آخر ،وقد تغفلها في مواقع أخرى ،لتوجه الحالة إلى النتائج الطيبة .إنَّ الابتعاد عن مثل هذه الدراسة الواقعيّة الهادئة ،والسير في خط الأساليب العاطفيّة ،يميِّع الموقف ويفقده جديته ،بل يوحي بالهروب من الواقع والاختفاء خلف الألفاظ البرّاقة ،والعودة من جديد إلى تعقيدات الواقع الصعب ،بعد اكتشاف السراب في لحظة الوصول إلى الأفق البعيد .
ثالثاً: إنَّ هذا الجو الإيجابي في الآيات ،الَّذي يؤدي إلى النتائج الإيجابيّة على صعيد اللقاء ،يدفعنا إلى اكتشاف المسألة على مستوى الأرضيّة الّتي نقف عليها ،لنتعرّف الملامح الحقيقيّة للواقع ،لأنَّ العوامل التاريخيّة والسياسيّة المعقّدة ،قد تركت آثاراً عميقة في داخل القلوب والنفوس والأفكار ،وخلّفت جروحاً في الأعماق ،ما جعل الجوّ يختلف كثيراً عن أجواء هذه الآيات ،فكانت العقدة موضع الفكر ،وعاش الحقد في مواقع المحبة ،وارتفعت الحواجز أمام فرص اللقاء ،وبدأت الساحة في بعض مواقعها تتكشف عن نصرانيّة يهوديّة في حقدها وعداوتها للإسلام والمسلمين ،الأمر الَّذي يوحي بالحذر الَّذي يدفع إلى الواقعيّة ولا يدعو إلى الشلل ،لئلا يجرّنا التساهل في مثل هذه الأمور إلى الوقوع في الفخ المنصوب لنا تحت تأثير الشعارات الخادعة الداعية إلى المحبة ،في الوقت الَّذي تعمل فيه ،بكلّ جهدها ،للتخطيط الدقيق للسير في خط الحقد والعداوة .
رابعاً: إنَّ التأكيد على استخدام صيغة التفضيل في عداوة اليهود والَّذين أشركوا للمسلمين ،يجعلنا نواجه الموقف في علاقتنا مع اليهود والجماعات الملحدة والمشركة ،من خلال هذا الخط ،فنعيش معهم ،كما يعيش الإنسان مع عدوّه ،لأنَّ اليهود يخططون لإضعاف الإسلام والمسلمين ،وبالتالي للقضاء على وجوده ووجودهم ،ولأنَّ الملحدين والمشركين يعملون على نسف كل قواعد الإيمان في الحياة ،ما يجعل من مسألة العداوة أمراً طبيعياً ،لأنَّ ذلك يرى أنَّ رسالته وعقيدته يفرضان عليه القضاء على فكرك أو عليك ،وبالتالي لا يمكنك أن تعتبره صديقاً ،أو تتعامل معه معاملة الصديق ،إلاَّ إذا كنت ساذجاً لا تفهم الأشياء بوضوح .
وفي ضوء هذا ،ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكدة على التسامح في هذا المجال ،في ما يُرفع من شعارات التسامح الديني ،ورفض التعصّب ،وما إلى ذلك .فقد يكون المقصود من ذلك كله ،تخفيف حالة التوتر الفكري والروحي والعملي الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم ،للمحافظة على خط الثبات في مواقعه الإسلاميّة ،وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء ،لأنَّ الإنسان كلّما اقترب من حالة الاسترخاء في مواقع التحدي ،كلّما اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء .
ربَّما يكون من المصلحة للإسلام والمسلمين أن يحافظوا على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخط ،لئلا يستغل العدو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها ،فيهزمنا بالضربة القاضية ،ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجو بكل عناصر الإثارة ،لتخلق حرباً هنا وحرباً هناك ،وتُثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كل مكان ،لأنَّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلاميّة ،بل معنى كل ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الَّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته .
وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقاتٍ تجاريّةٍ وسياسيّةٍ وعلميّة ،فلا نجد في ذلك أيَّ حرج ،في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين ،لأنَّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوه في حالات الهدنة ،مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر .