{يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ} أي صلب الرجل ،وهو عظام ظهره الفقارية ،ومن ترائب المرأة ،وهي عظام صدرها العلوية .وهكذا يكون اللِّقاء بينهما واتحادهما هو الوسيلة لبداية رحلة الوجود الحيويّ للإنسان ،ابتداءً من الخلية الواحدة التي لا تفتأ أن تتكاثر ،وصولاً إلى إنتاج هذا الإنسان الحيّ الكامل بكل خصوصيّاته البشرية منها ،وتوجيه الإنسان إلى أن ينظر إلى ذلك قد يؤدّي به إلى اكتشاف القوانين المودعة في حركة هذا الماء الدّافق الذي يمثّل ملايين الخلايا في الدفقة الواحدة ،فكيف تحصل الخليّة الواحدة منهاالتي يوجد منها الإنسانعلى غذائها في جدار الرحم من حولها الذي يتحوّل إلى بركةٍ من الدم السائل للغذاء الطازج ؟وكيف تنقسم إلى عدة خلايا ،تتخصّص كل مجموعةٍ منها لبناء الجسم الإنساني في أجهزته ،من الهيكل العظمي ،إلى الجهاز العضلي ،والجهاز العصبي ،إلى غير ذلك من الأجهزة التي تمثل أسس الحياة الإنسانية الجسدية ؟مع ملاحظةٍ مهمّةٍ ،وهي وضع كل عضلةٍ أو عصبٍ أو عضوٍ في موضعه ،فلا تخطىء عملية التركيب والنمو في شيءٍ من ذلك ،كما لا تخطىء عملية الشكل والصورة في الملامح الدقيقة الخاضعة لعوامل الوراثة التي قد تمتدّ في تأثيرها إلى عشرات السنين ،فكيف حدث هذا ؟ومن الذي ألهم الخلية الواحدة من هذا الماء الدافق بهذا التكاثر والتقسيم والتوزيع والتصوير والتنظيم ؟ثم هذه الدقة في خصائص الأجهزة والأعضاء ،بحيث يكون كل واحدٍ منها عالماً مستقلاً ،في عناصرها الذاتية في حال انفرادها بعمل ،أو تعاونها في بعض الأعمال .
ولو أراد الإنسان أن يرسم مخططاً لهذا التكوين الهائل ،في طبيعة عناصر هذا الوجود الإنساني وخصائصه ،لاحتاج إلى جهود ضخمةٍ من العلماء والمتخصصين ،وعشراتٍ من السنين ،ولن يستطيعوا أن يبلغوا كل الأسرار التي ينفتح منها للإنسان في كل اكتشاف علميٍّ سرّ جديد .ويبقى للروح سرُّها ،وللعقل تعقيداته ،وللذاكرة غوامضها ،مما قد يتعب الفكر ،فلا يستطيع استيعابها بشكلٍ مطلق .فكيف هي عظمة الخالق القادر على أن يودع كل هذه الأسرار والحركة والإبداع في هذه الخلية الواحدة التي لا تدرك بالعين المجرّدة ؟وكيف يمكن أن يستبعد أحدٌ من خلقه قدرته على بعض شؤون حركة الإنسان في إعادته إلى الحياة بعد الموت من جديد ؟
الآية والاكتشافات العلمية
وقد تحدّث بعض المختصين بأن الاكتشافات العلمية لا توافق أن يكون نشوء هذا الماء الدافق من الصلب في الرجل ،والترائب في المرأة ،لأنَّ هناك من ينكر وجود منيٍّ للمرأة ،فضلاً عن انطلاقه من ترائبها ،وإذا كان المراد بذلك بويضة المرأة التي يفرزها جسدها لتلقحها النطفة ،فإن التعبير لا يلائمهاأوّلاًثم إن مصدرها ليس الترائبثانياًفكيف نفسر ذلك ؟
وإذا كنا لا نملك اختصاصاً في هذا المجال ،فلا نستطيع أن نخوض في حديثٍ علميٍّ تحليليٍّ لهذا الموضوع سلباً أو إيجاباً .ولكننا قد نلاحظ بأن الحديث عن إرادة الماء الممتزج من ماء الرجل والمرأة ،من كلمة الماء الدافق ،ناشىءٌ من بعض الروايات التي لا تمثل سنداً قطعياً ،في ما هي الحقيقة الشرعية ،كما أنّ هذا الكشف العلمي الناشىء من تأملاتٍ تجريبيّةٍ ،لا يفيد إلاّ الظنّ ،فلا يمكن لنا أن نتوقف هنا أو هناك ،لنتحفّظ في الحقيقة القرآنية التي لا تصدر من تجربةٍ ظنيّة ،بل هي وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،وقد يكتشف الإنسان نظريةً علميةً جديدةً تقلب موازين هذا الاكتشاف رأساً على عقب ،فتثبت بأن للمرأة ماءً كما هو للرجل ،كما تتحدث عن مصدره بما لا يتنافى مع القرآن ،ومن المحتمل أن يكون المراد من الماء ماء الرجل الذي يخرج من الصلب والترائب ،إذا كانت كلمة الترائب تتسع لعظام الصدر العلوية للرجل ،كما هي للمرأة ،والظاهر أن الأمر كذلك ،ولذا احتاج التخصيص بها إلى الإضافة ؛والله العالم .