{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ( البقرة:129 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك} ،أي أرسل فيهم رسولاً مرسَلاً من عندك يقرأ عليهم آياتك ،ويبينها لهم ،كما قال اللهتبارك وتعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [ النحل: 44] .
قوله تعالى:{ويعلمهم الكتاب} أي القرآن ،وما فيه من أخبار صادقة نافعة ،وأحكام عادلة ؛{والحكمةقيل: هي السنة ؛لقوله تعالى:{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [ النساء: 113]؛ويحتمل أن يكون المراد بها معرفة أسرار الشريعة المطهرة ،وأنها شريعة كاملة صالحة لكل زمان ،ومكان .
قوله تعالى:{ويزكيهم} أي ينمي أخلاقهم ،ويطهرها من الرذائل .
قوله تعالى:{إنك أنت العزيز الحكيم}؛{أنت}: ضمير فصل لا محل له من الإعراب ؛و{العزيز} خبر{إن}؛و{الحكيم} خبر ثان ؛والكاف اسم{إن}؛و{العزيز} أي ذو العزة ؛و «العزة » بمعنى القهر ،والغلبة ؛فهو سبحانه وتعالى ذو قوة ،وذو غلبة: لا يغلبه شيء ،ولا يعجزه شيء ؛و{الحكيم} أي ذو الحُكم ،والحكمة .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: ضرورة الناس إلى بعث الرسل ؛ولذلك دعا إبراهيمُ وإسماعيلُ الله سبحانه وتعالى أن يبعث فيهم الرسول .
2 ومنها: أن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته ؛لقوله تعالى:{رسولاً منهم}؛لأنهم يعرفونه ،كما قال تعالى:{ما ضل صاحبكم وما غوى} [ النجم: 53]؛فتأمل قوله تعالى:{ما ضل صاحبكم} [ النجم: 53] ،حيث أضافه إليهم ؛يعني: صاحبكمالذي تعرفونه ،وتعرفون رجاحة عقله ،وتعرفون أمانتهما ضل ،وما غوى .
3 ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله سبحانه وتعالى فيه من الخير أنه يتلو الآيات ،ويعلم الكتاب ،ويعلم الحكمة ؛لقوله تعالى:{يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} .
4 ومنها: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن ذكر آيات الله الكونية ،والشرعية ،وتتضمن تعليم الكتاب تلاوةً ،ومعنًى ،وتتضمن أيضاً الحكمةوهي معرفة أسرار الشريعة ،وتتضمن تزكية الخلق ؛لقوله تعالى:{يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} .
5 ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يزكي الأخلاق ،ويطهرها من كل رذيلة ،كما قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق »{[163]}؛وهكذا كانت شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم: تنمية للأخلاق الفاضلة ،وتطهيراً من كل رذيلة ؛فهو يأمر بالبر ،ويأمر بالمعروف ،ويأمر بالإحسان ،ويأمر بالصلة ،ويأمر بالصدق ،ويأمر بكل خير ؛كل ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه فإن الإسلام يأمر بهوهذه تزكية؛وينهى عن ضد ذلك ؛ينهى عن الإثم ،والقطيعة ،والعدوان ،والعقوق ،والكذب ،والغش ،وغير ذلك من مساوئ الأخلاقوهذه أيضاً تزكية.
وحال الناس قبل الإسلام بالنسبة للعبادة لا تَسأل !شرك ،وكفر ؛وبالنسبة للأحوال الاجتماعية لا تَسأل أيضاً عن حالهم !القوي يأكل الضعيف ؛والغني يأكل الفقير ؛ويأكلون الربا أضعافاً مضاعفة ؛يُغيِر بعضهم على بعض ؛يتعايرون بالأنساب ؛يدعون بدعوى الجاهلية ...إلخ .
جاء الإسلام ،وهدم كل هذا ؛ومن تدبر التاريخ قبل بعثه ( ص ) وبعده ،علم الفرق العظيم بين حال الناس قبل البعثة ،وحالهم بعدها ؛وظهر له معنى قوله تعالى:{ويزكيهم} .
6 ومنها: أن هذه الشريعة كاملة ؛لتضمن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المعاني الجليلة مما يدل على كمال شريعته .
7 ومنها: إثبات العزة ،والحكمة لله ؛لقوله تعالى:{إنك أنت العزيز الحكيم} .
8 ومنها: إثبات هذين الاسمين لله:{العزيز} ،و{الحكيم} .
9 ومنها: مناسبة العزة ،والحكمة لبعث الرسول ؛وهي ظاهرة جداً ؛لأن ما يجيء به الرسول كله حكمة ،وفيه العزة: قال الله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [ المنافقون: 80]؛للمؤمنين عرباً كانوا ،أو عجماً ؛من كان مؤمناً بالله عزّ وجلّ قائماً بأمر الله فإن له العزة ؛ومن لم يكن كذلك فاته من العزة بقدر ما أخل به من الإيمان ،والعمل الصالح ؛ولهذا يجب أن تكون رابطة الإيمان أقوى الروابط بين المؤمنين ؛لأنه لا يمكن أن تكون هناك عزة واجتماع على الخير برابطة أقوى من هذه الرابطة .