{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}من داخل مجتمعهم يعيش كلّ أوضاعهم ويطّلع على كلّ مشاكلهم ،ويعرف كلّ حاجاتهم الروحية والفكرية والعملية ،فإنَّ قضية أن يكون الرسول من داخل الأمّة التي يتحرّك منها نحو العالم هي قضية الرسول الذي يعي كلّ الواقع ،وكلّ الآفاق الواسعة التي ينطلق بأمته فيها ،يحاكي شجونها وقضاياها قبل أن يصل إلى مرتبة النبوّة والرسالة .{ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} التي توحي إليهم بكلّ الشرائع والمفاهيم والأفكار والمناهج والأساليب والأهداف ،التي تمثّل إرادتك في حياة خلقك لتكون طوع رضاك ؛{ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}الذي يمثّل خطّ النظرية العام في المنهج الرسالي للإنسان والحياة{ وَالْحِكْمَةَ}التي تمثّل حركة التطبيق العملي للنظرية ،فيضعون الأشياء في مواضعها ،ويتحرّكون بها في مسارها الطبيعي ؛{ وَيُزَكِّيهِمْ}فيطهّر نفوسهم من الشرك ،ومن كلّ القذارات الروحية الأخلاقية التي تشوّه إنسانيتهم ،وتربك خطواتهم ،وتبتعد بهم عن نظافة التصوّر والسلوك ؛{ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}الذي لا ينتقص أحدٌ من عزته ،الذي جعل لكلّ شيء قدراً ووضع كلّ شيء في موضعه انطلاقاً مما يُصلِح الحياة والإنسان ويجنّبهما المفاسد في كلّ حركة الواقع .
أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:
الجوّ الروحي في بناء المؤسسات:
1الجوّ الروحي الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه ،وهم يعملون في بناء المؤسسات ،فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادية التي تفرضها طبيعة هذا النوع من العمل ،عن البقاء في الخطّ الروحي الواعي الذي ينفتح فيه الإنسان على اللّه الذي كان العمل من أجله ،ليبقى للعمل جوّ العبادة والواجب والمسؤولية ،فلا يتحوّل إلى غايةٍ بعد أن كان وسيلة ،كما نشاهده في كثير من المؤسسات الدينية التي انطلق أصحابها من موقع الفكرة الرسالية في البداية ،حتّى إذا اندمجوا فيها وعاشوا في الأجواء المادية التي تفرضها العلاقات والالتزامات ،تحوّلوا إلى أشخاصٍ جامدين لا يملكون أيّة حيويّة روحيّة في هذا المجال ،بل ربما تبدأ العقلية الفردية الضيّقة في التحكّم بطبيعة المؤسسات وخطواتها العملية ،فتتحوّل إلى شيء يخصّ الشخص أو الجهة ،في ما يفرضه المزاج أو تدعو إليه المصلحة الخاصة ،وقد يحدثفي هذا الجوّأن يبدأ الصراع بين مؤسسة وأخرى من خلال تعارض المصالح الفردية للقائمين عليها ،أو لتصادم الخطوط التي يسير عليها هذا أو ذاك ،وبذلك تصبح المؤسسات الدينية خطراً على العمل الديني بما تثيره من أجواء الحقد والبغضاء والتنافس الفردي على الأطماع والامتيازات ،وبما تتحرّك فيه من أساليب وشعارات تستخدم القيم الدينية للمحافظة على أطماع الدنيا وشهواتها ،وربما كان السرّ في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن اللّه واستغراقها في ظلمات الذات ،خلافاً لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل في روحيّتهما الفيّاضة الدافقة في بناء البيت الحرام .
التفكير بإيمان الأجيال:
2وقد نستوحي من ذلك أن يعيش العاملون باللّه الحُلُم الكبير في ما يحلمون به لمستقبل أولادهم ،وذلك بالتركيز على أن يكونوا مؤمنين باللّه ،عاملين في سبيل إيجاد القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم والأمّة المسلمة ،فتتحول التربية ،في هذا الجوّ ،إلى التخطيط العملي ،الأمر الذي يجعل ارتباط الإنسان بأولاده ارتباطاً رسالياً يتحرّك في نطاق الحركة الرسالية ،لا في موقع العاطفة الذاتية التي تحلم وتفكر لهم بالنجاح المادي في الدنيا بعيداً عن النجاح الروحي في الدنيا والآخرة ،وهذا ما نلمح مظاهره وخطواته في سلوك بعض الدعاة إلى اللّه الذين يفصلون بين أولادهم وبين الآخرين ،فيعملون على أن يضمنوا لأبنائهم المزيد من الأمن والبعد عن الأخطار التي يفرضها العمل على السائرين في الطريق ،ولكنهم لا يعيشون هذا الاهتمام بالآخرين من النّاس وأولادهم ،فيدفعونهم إلى اقتحام الخطر في سبيل اللّه ويحشدون في سبيل ذلك كلّ ما يملكونه من أساليب الإثارة والانفعال ...إنها الازدواجية في الفكر والعاطفة والعمل ،التي تجعل للعاملين شخصيتين مختلفتين تتحرّك إحداهما في النطاق الذاتي بعيداً عن الرسالة ،وتنطلق الأخرى في نطاق الآخرين لتثير كلّ الأجواء من خلال شعارات الرسالة ،خلافاً لما توحيه الآية من وحدة الشخصية التي يحلم بها إبراهيم وإسماعيل لأولادهما بما يحلمان به للذات ولأولاد الآخرين ،لأنَّ المسؤولية تتحرّك في داخلهم من موقعٍ واحد نحو هدف واحد .
بين الرسالة والقيادة:
3ويستوحي المتأمّل من هذه الآيات ،أن يفكر المسؤولون عن العمل الإسلامي في مسؤوليتهم الرسالية في تهيئة الأجواء الإسلامية للنّاس من خلال وجود مسؤولين دينيين في حياة المجتمع ،باعتبارهم الذين يملكون قدرة قيادة النّاس في خطوات الفكرة على أساس تفصيلي واضح ،فلا يغرقون في الشموليات التي تُفقدهم الرؤية الواضحة للطريق ،ولا يضيعون في الطريق بين العلامات المتنوّعة أو الرمال المتحركة .
إنَّ هذا الدعاء الأخير الذي يطلب من اللّه إرسال الرسول ،يوحي لنا بالحاجة إلى الرسالة والرسول في كلّ عمل تغييري يستهدف تغيير المجتمع من الجذور ،فلا قيمة للقيادة بدون رسالة ،ولا قيمة للرسالة بدون قيادة تدل النّاس على مواضع الطريق ...وقد يجدر بنا أن نشير ،في نهاية الحديث ،إلى الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد ( ص ) ،وهو يعلّق على هذه الآية: «أنا دعوة أبي إبراهيم » .