وإن نبي الله وخليله وابنه لا يكتفيان بالدعوة لذريتهما ولأنفسهما بالتوبة ، بل يطلبان هاديا مرشدا لهم من بعدهما ، ولذلك يقولان في دعواتهما:{ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} الواو عاطفة عطفت "ابعث"على "واجعل"، واعترضت كلمة ربنا لكمال الضراعة والشعور بنعمة الربوبية ، والرسول هو المرسل من قبل الله تعالى ، وبعثه تكليفه بالقيام برسالة ربه ، وتبليغها ، و "فيهم"أي في وسطهم على أنه منهم ، ليكون بهم أرحم وعليهم أعطف ، ولهم آلف ، كما قال تعالى:{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم128} [ التوبة] وواضح أن الرسول الذي دعا إبراهيم وإسماعيل ببعثته هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد روي أنه قال إجابة لنفر من الصحابة قالوا:يا رسول الله عرفنا بنفسك ، فقال:( نعم ، أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ) فإبراهيم عليه السلام دعا ، ببعثه وعيسى بشر به كما قال تعالى:{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . . . 6} [ الصف] .
وقد نكر "رسولا"للتعظيم ، أي رسولا عظيما كريما منهم . وقد ذكر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ما أرسل به إليه فقال:{ يتلو عليهم آياتك} والآيات هنا هي الآيات القرآنية ، والقرآن هو المعجزة الكبرى الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعنى "يتلو"يقرؤها مرتلة تتلو كل كلمة أختها ، ويتلوها عليهم يعني يقرؤها فقد نزل مرتلا كما قال تعالى:{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا32} [ الفرقان] أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك باستمرار نزوله ، ولنعلمك ترتيله حتى تحفظه ، وقيل إن الآيات هي الدلائل على نبوته ، وإذا علمنا أن المعجزة الكبرى الدالة على رسالة محمد هي القرآن المتلو ، تكون النتيجة واحدة ، وهي أن المتلو القرآن .
وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يتلو عليهم الآيات مرتلة ترتيلا ، أن يعلمهم علم الكتاب من أوامر ونواه لهم تبيينا ، ولذا قال تعالى:{ ويعلمهم الكتاب والحكمة} والكتاب هو القرآن لأنه الكتاب الكامل الذي إذا أطلق اسمه انصرف إليه ، لأنه الكامل كمالا مطلقا .
وتعليم الكتاب بتبيين أحكامه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين له ، والشارح لأحكامه ، ولذلك قال تعالى:{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم . . . 44} [ النحل] .
فتعليمهم الكتاب هو تعليم أحكامه ، وبيان شرائعه ، وما اشتمل عليه ، و"الحكمة":قال الشافعي:إنها السنة ، ولذلك اقترنت بالكتاب باعتبارها المصدر الثاني وروى ابن وهب عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه:المعرفة بالدين والفقه في التأويل والفهم الذي هو منحة ونور من الله تعالى ، وقيل:الحكمة هي الحكم ، والفصل في عدالة بين الناس .
وإن الحكمة معناها حسن التدبير للأمور ، وفهمها وفقه الدين ، ومعرفة أسراره ، وفي الجملة هي المعنى الجامع لصفة الإسلام وإدراك غاياته ، وعلاجه للأمور ، وسياسة الناس ، وتصريف الأمور معهم ، وكانت جلسات النبي صلى الله عليه وسلم تحوي الكثير من أدب النفس ، وتعليم لياقة المجتمع والتقريب والتأليف بين النفوس ، وكل ذلك من الحكمة النبوية حتى لقد قال أبو حنيفة:إن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغني عن فقه سنين . وإن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوة الكتاب وتعليمه تزكية النفوس وتنميتها وتطهيرها فقال تعالى:{ ويزكيهم} أي يطهرهم من رجس الجاهلية وينميهم ، بمعنى ينمي فيهم قوة الخلق وقوة الدين ، وما يكون سببا لنمو عددهم وشيوع أمر الإسلام ، وبقائه خالدا قائما .
وإنه يستفاد من هذا أن القرآن الكريم يتعبد بتلاوته وأشار إلى ذلك قوله:{ يتلو عليهم آياتك} ، ويعلم الشرع منه ، إذ فيه كله ، ويشير إلى هذا قوله تعالى:{ ويعلمهم الكتاب} .
وإن النبي صلى الله عليه وسلم يهذب النفوس ، ويزكي القلوب بتعليم الحكمة والتزكية .
وقد ختم إبراهيم عليه السلام دعوته بالضراعة إلى ربه فقال:{ إنك أنت العزيز الحكيم} العزيز:هو ذو العزة . وتتضمن معنى القدرة والمنعة ، والغلب ، والسلطان ، أي أنت الغالب المعز العزيز الحكيم المدبر المنظم للوجود ، الواضع كل شيء في موضعه بإحكام .
وأكد هذين الوصفين بإن المؤكدة ، وبتوكيد القول ، بقوله "أنت"، وبتعريف الوصفين الدال على اختصاصه سبحانه وتعالى بالعزة والسلطان ، فلا عزة لأحد بجوار عزته ، ولا سلطان لأحد بجوار سلطانه .