اتجه خليل الله تعالى إلى ربه داعيا لجماعته ، بعد دعائه لنفسه وابنه ، فقال هو وابنه عليهما السلام:{ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} .
الواو في قوله تعالى{ واجعلنا مسلمين لك} ، عاطفة على قوله تعالى:{ ربنا تقبل منا} وكرر بين المعطوفين كلمة{ ربنا} للشعور بكمال ربوبية الله تعالى ، وبكمال الضراعة له سبحانه ، فتكرار الربوبية شعور بذكر الله تعالى دائما ، وبذكر نعمه ، وإنه كالئ هذا الوجود كله .
{ واجعلنا} هنا بمعنى صير ، وكون ، أي اجعل في كوننا ووجودنا أن نكون مسلمين لك ، أي مخلصين لك ولوجهك الكريم ، والإسلام هنا بمعنى الإخلاص والاستسلام ، وأن يكونا لله وحده ، مثل قوله تعالى:{ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون112} [ البقرة] وإن الإيمان والإسلام هنا بمعنى واحد ، بل إن الإسلام في هذا المقام درجة عالية بعد الإيمان ، فالإيمان تصديق وإذعان والإسلام هنا تصديق وإذعان ، وإسلام النفس والعقل والجوارح كلها لله تعالى ، فهو أعلى درجات الإيمان .
وإنهما لم يدعوا لأنفسهما فقط ، بل دعوا أيضا لذريتهما ، فقالا في دعائهما الضارع المخلص ،{ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} أي:واجعل في ذريتنا أمة مسلمة لك .
و "من"هنا للتبعيض ، والمعنى اجعل بعض ذريتنا أمة مسلمة ، أي مؤمنة مصدقة مذعنة مسلمة وجهها لك ، بحيث تكون كلها لك .
وقالوا:إن الدعاء لبعض الأمة اتعاظا بقول الله تعالى له:{ لا ينال عهدي الظالمين124} [ البقرة] ونحن نرى أن "من"بيانية ، لأن الدعاء لله تعالى يكون بأعلى ما يطلب لا بأدناه ، والمعنى اجعل من ذريتنا أمة مسلمة ، أي اجعل ذريتنا أمة مسلمة للبعض المختار منها ، الذي يصلح أن يكون قدوة تتبع .
والأمة هنا الجماعة التي تجتمع على فكرة ثابتة قائمة .
هذا دعاء إبراهيم –عليه السلام- لذريته ، وهو دعاء أب شفيق مخلص يرتاد لذريته أكمل المناهج ، وأتم الإخلاص والضراعة . ولقد دعا عليه السلام هو وابنه المخلص المطيع قالا:{ وأرنا مناسكنا} أي اجعلنا نبصر ونعلم مناسكنا ، والمناسك جميع منسك ، وأصل النسك الطهارة ، وأصله الغسل والتنظيف ، ثم أطلق بمعنى العبادة عامة ، ويطلق على العبادة بالحج ، وإقامة شعائره من طواف ، وسعي وذبح ورمي جمار بعد الوقوف بعرفة ، وبالمزدلفة ، ويقال كما ذكرنا لكل عبادة ، ومن ذلك الناسك بمعنى المنصرف للعبادة .
وما المراد بالمناسك هنا ؟ فسرها بعض العلماء بأنها العبادات الدينية سواء أكانت تتعلق بالحج ، أم تعم كل العبادات كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها ، ومنها الحج .
وقال بعض المفسرين إنها مناسك الحج من طواف ، وسعي وذبح هدي ووقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار ، وغير ذلك من شعائر الحج .
وإني أميل إلى تعميم المناسك ليشمل كل العبادات الشرعية .
والدعاء الذي يدل على قوة الإحساس الديني ، وقوة إسلام الوجه هو قوله تعالى:{ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} التوبة:الرجوع إلى الله تعالى ، وتاب عليه بمعنى قبل التوبة ، ومعنى{ تب علينا} ، اقبل توبتنا ، وارجع علينا بالمغفرة إنك أنت التواب الرحيم ، والتواب صيغة مبالغة من تائب ، والمراد منها قبول التوبة ، وكأن المعنى:إننا تبنا ومن الله تعالى قبول التوبة في رحمة ، فالتواب كثير القبول لتوبة التائبين ، كما قال تعالى في آية أخرى:{ غافر الذنب وقابل التوب . . .3} [ غافر] ، وإن قبول التوبة ، والإكثار من قبولها هو من رحمة الله تعالى ، ولذا قرن في هذه الآية الكريمة قبول التوبة ووصفه سبحانه وتعالى بها بوصفه بالرحمة ، لأن من رحمته أن يقبل التوبة فهي من فضل الله تعالى ورحمته لا عن استحقاق .
وهنا يسأل السائل:إن الأنبياء معصومون عن الذنوب ، فلم يتوبون ، فإنه لا يحصل منهم ذنوب تستوجب التوبة والغفران ؟ والجواب عن ذلك أن التوبة رجوع إلى الله وتقرب إليه سبحانه ، والتوبة على ذلك مراتب:
المرتبة الأولى:وهي أدناها الإقلاع عن الذنوب بالندم على ارتكابها والابتعاد عنها ، واعتزام ألا تقع من بعد ذلك وهذه تكون للعصاة الذين ارتكبوا كبائر أو أصروا على صغائر ، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن ينيبوا إلى ربهم فقال تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا . . . 53} [ الزمر] .
المرتبة الثانية:وهي متوسطة بين أعلاها وأدناها ، وهي الاستغفار عما يكون من خطأ أو نسيان ، أو هفوات إنسانية فقط مما يؤاخذ عليه الأبرار الأطهار ، وهو الذي ينطبق عليه قول بعضهم:حسنات الأبرار سيئات المقربين .
المرتبة الثالثة:وهي الإحساس بالقصور في حق الله تعالى لفرط إيمانهم ، وقربهم من الله ، وهذه توبة الأطهار من النبيين والرسل ، فهذه توبة إبراهيم .
والتوبة كيفما كانت رتبتها عبادة ، وأهل الله يقولون:رب معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا ، فالطاعة من الأنبياء لا تورث دلا ، بل نفوسهم لقربهم من الله تحس بالذل له ، فيتوبون ، ثم يتوبون .