{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}لنسلم لك في كلّ أقوالنا وأفعالنا وعلاقاتنا ومواقفنا ومواقعنا وأفكارنا ومشاعرنا ،لنذوب في عمق رضاك ومحبتك ،فلا يكون لنا شيء إلاَّ ما يرضيك في ذلك كلّه ،ليكون إسلامنا حركةً في وجودنا كلّه في الباطن والظاهر .وإذا كان الإسلام هو ما نتطلّع إليه في منهج حياتنا ،فإننا ننطلق به من خلال إيماننا بأنه هو الصراط المستقيم الذي ينتهي إليك في مواقع رحمتك ورضاك ،ولذلك فإننا نريد له أن يمتد في ذريتنا ،{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}تتحرّك في كلّ حركتها في الحياة في خطّ الإسلام لك{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}من شرائع عباداتنا أو حجنا ،والنسك هو غاية الخضوع والعبادة ،وشاع استعماله في عبادة الحج وأعماله .
رأي العلامة الطباطبائي ومناقشته:
وقد حاول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان أن يفرّق بين الإسلام المتداول عندنا وبين الإسلام المسؤول في الآية ،فإنَّ المتداول منه مما يتبادر إلى الأذهان ،هو «أول مراتب العبودية ،وبه يمتاز المنتحل من غيره ،وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدينية ،أعمّ من الإيمان والنفاق ،وإبراهيم ( ع ) وهو النبيّ الرسول أحد الخمسة أولي العزم ،صاحب الملّة الحنيفية ،أجلّ من أن يتصوّر في حقّه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين ،وكذا ابنه إسماعيل رسول اللّه وذبيحه ،أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك ،أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك ،وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى » .
ويضيف إلى ذلك قوله: «على أنَّ هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي ،كما قال تعالى:{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[ البقرة:131] ،ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى اللّه سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عنايةٍ يصح معها ذلك » .
أمّا الإسلام المطلوب ،فهو «تمام العبودية وتسليم العبد كلّ ما له إلى ربّه ،وهو ،وإن كان معنى اختيارياً للإنسان من طريق مقدماته ،إلاَّ أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري ،بمعنى كونه غير ممكن النيل له ،وحاله حاله ،كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية ،وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة ،ولهذا يمكن أن يعدّ أمراً إلهياً خارجاً عن اختيار الإنسان ،ويسأل من اللّه سبحانه أن يفيض به ،وأن يجعل الإنسان متصفاً به .على أنَّ هنا نظراً أدق من ذلك ،وهو أنَّ الذي ينسب إلى الإنسان ،ويعدّ اختيارياً له ،هو الأفعال ،وأمّا الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية له بحسب الحقيقة ،فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى ،وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نِسبَتُها إليه تعالى أولى من نِسبتها إلى الإنسان » .
ونلاحظ على كلام العلامة الطباطبائي أنه ينطلق من التفسير الحر للكلمة التي تتضمن الإيجاد بعد العدم ،الأمر الذي يجعل المعنى المطلوب غير حاصل في حال الطلب ،ولذلك اضطر إلى تكلف التفرقة بين «الإسلامين » ،وفي مناقشته نقول:
أوّلاً: إنَّ إبراهيم وإسماعيل كانا في ذلك الحين مُسلمَين بالمعنى الشامل للإسلام المنطلق من المعرفة العميقة الواسعة باللّه ،مما نستوحيه من حوار إبراهيم مع نفسه ومع قومه ومع أبيه ،وانفتاحه على اللّه في كلّ شؤونه وتسليمه له في كلّ أموره ،ومن الموقف الإيماني الرائع الذي وقفه مع ولده إسماعيل عندما أمره اللّه أن يذبح ولده الذي يعني أمر إسماعيل بتسليم نفسه لأبيه ،فإنَّ الظاهر أنَّ هذه الحادثة كانت قبل بناء البيت ،كما هو ظاهر القرآن الذي يوحي بأنَّ التجربة الصعبة كانت عندما بلغ معه السعي الذي يمثّل أوائل مشيه ؛وذلك هو قوله تعالى:{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُني إِن شَآءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ}[ الصافات:102] وقد جاء عن الفراء: «كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة » ،ومن المعروف أنها ليست السنّ التي يتمكن فيها من أن يكون شريكاً لأبيه في بناء البيت ،فلا بُدَّ من أن يكون ذلك متأخراً عنه .
وفي ضوء ذلك ،لا يكون إسلام إبراهيم وإسماعيل آنذاك هو الإسلام التقليدي الظاهري ،ولا سيما إذا عرفنا أنَّ إبراهيم كان نبياً في ذلك الوقت ،فكيف يتفق هذا مع تفسير العلامة الطباطبائي ،فإنَّ ما هو مطلوبحسب هذا الرأيكان حاصلاً آنذاك .
وثانياً: إنَّ الاختيارية في الفعل مشتركة بين نوعي الإسلام ؛فإنَّ الإسلام الذي يمثّل تمام العبودية أمر ممكن للإنسان العادي الذي يعيش عمق المعرفة للّه ،ولولاه لما كُلِّف الإنسان به .
وثالثاً: إنَّ الحديث عن أنَّ الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها ليست اختيارية بحسب الحقيقة ،ليس دقيقاً ،لأنَّ اللّه عندما ربط الملكات والصفات بأسبابها ،كانت اختيارية تماماً كما هي اختيارية الأفعال ،ولا فرق بينهما إلاَّ أنَّ تلك كانت بالواسطة ،أمّا الأفعال فهي بدون واسطة .
{ وَتُبْ عَلَيْنَآ}من موقع الإخلاص لك والاندماج في الإحساس بعظمتك ،حتى يخيّل إلينا أننا لم ننسجم مع كلّ ما يرضيك في الوقت الذي لم يصدر منا شيء من شؤون سخطك ،{ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}الذي يتعهّد عباده بالمحبة والعفو والرضوان ،فيغفر للعاصين منهم ،ويزيد الطائعين من رضاه انطلاقاً من رحمته التي وسعت كلّ شيء .