ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء وهو أبوهم
إن إبراهيم أبو الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وجاءوا بعده ، وقد يكون هناك أنبياء آخرون بل لا بد أن يكون ذلك ، لأن الله تعالى يقول:{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير 24} [ فاطر] ويقول:{ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . . . 78} [ غافر] .
ولقد دعا الله تعالى إلى ملة إبراهيم الناس جميعا من بعده ، لأنها إجابة للفطرة ، وتنبعث من النفس المستقيمة واتجاه العقل الحكيم ، ولقد قال تعالى:{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} ومن هنا استفهام إنكاري يتضمن معنى نفي الوقوع ، ويتضمن التوبيخ على من وقع منه هذا ، والمعنى لا يرغب عن ملة إبراهيم ويتركها متجاوزا لها إلى غيرها من الأوهام الباطلة إلا من سفه نفسه .
وقوله تعالى:{ يرغب عن} فيها التجاوز والترك إلى أوهام ، ونقيض يرغب عنها:يرغب فيها ، فالرغبة فيها إقبال عليها ، والرغبة عنها تجاوز عنها ، وترك لها ، وهذا يتضمن أمرين:أولهما –أنه علمها ، وكان ينبغي أن يرغب فيها ولكنه تجاوزها وتركها لا عن انصراف مجرد ، بل عن قصد وإعراض ، وثانيها –أنه اتجه ورغب في غيرها ، ونفى الله تعالى الرغبة عنها إلا ممن سفه .
وقوله تعالى:{ إلا من سفه نفسه} ، أي جهلها في حمق ورعونة ، لأن النفس الإنسانية المستقيمة تتجه إلى الله لما في داخلها من ينبوع الخير الداعي إلى إدراك الحق المستقيم ، ولأن كل ما في النفس من عقل مدرك ، ويد تبطش وعين تبصر وأذن تسمع ورجل تسير بها كل يدل على الإيمان الحق ويهدي ، كما قال في الذين يضلون إذ ينسون خلقهم وكونهم ، فيقول:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل . . . 179} [ الأعراف] . فالنفس الإنسانية لو تأملنا خلقها وتكوينها تهدي وترشد إلى الحق ، ولقد قال تعالى:{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون 21 وفي السماء رزقكم وما توعدون 22} [ الذاريات] .
وقوله تعالى:{ إلا من سفه نفسه} ، أي جهلها عن سفه وحمق ورعونة كما ذكرنا ، والفرق بين جهل النفس ، وأن يكون قد سفهها أن الجهل قد يكون عدم علم وعدم اهتداء إلى الحق ، وألا يكون عنده أدوات العلم وطرق المعرفة ، أما السفه فمعناه أن يجهل وعنده طرق المعرفة ، وأسبابها ويتركها حمقا ورعونة ، ولقد قال تعالى:{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم . . . 19} [ الحشر] وسفه نفسه ، قيل إنها بمعنى سفه بتشديد الفاء بمعنى أوقعها في جهل وسلك بها غير ما تهدي إليه الفطرة .
وإن ملة إبراهيم هي ملة النبيين فقد قال تعالى:{ فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 95} [ آل عمران] وقال تعالى في سورة الحج:{ وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين . . . 78} [ الحج] .
وإن ملة إبراهيم كانت ملة النبيين ، لأن الله تعالى اختاره للإمامة ، وابتلاه بالكلمات ، ولأنه كان يشكر نعم ربه ، ولأنه اختاره لبناء البيت ، ولأنه اختاره لتعليم مناسك الحج ، ولأنه اختاره ليكون أب الأنبياء ، ولذلك كله قال تعالى:{ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} وقال تعالى في آية أخرى:{ شاكر لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم 121} [ النحل] .
ومعنى اصطفاه الله تعالى ، أي اختاره بعد أن ابتلاه بما صفى نفسه وخلصها لله تعالى ، وصار ليس في قلبه موضع لغيره فاختاره من بين خلقه خليلا له ، وكان أمة وإماما ، وكان أواها حليما رجاعا إلى الله تعالى دائما .
وأكد سبحانه وتعالى أنه في الآخرة لمن الصالحين ، ففي الدنيا اصطفاه ، فكان معه فيها على الخير المطلق ، وقد ابتلى فأحسن البلاء ، وكان صفيا وكان وليا ، واختص بأن يكون خليلا .
وقد وصف سبحانه وتعالى حاله في الآخرة مؤكدا فقال:{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين} وقد قال بعض الناس:إن العمل الصالح في الدنيا وإن جزاءه في الآخرة فالآخرة دار جزاء لا دار عمل ، فكيف يقال في الآخرة إنه من الصالحين ؟ !
ونقول في الجواب عن ذلك أن ما ذكره الله تعالى عن حاله في الآخرة أنه سجل له الوصف بأنه من الصالحين فقد سجل عليه سبحانه وصف الصلاح ، والمعنى أنه ختم أعماله في الدنيا بالخير ، وصار في زمرة من كتب الله لهم الصلاح في الآخرة ، ففي الآخرة جعله تعالى في جملة من رضي عنهم ووسمهم بالصلاح فكافأهم برضوانه تعالى وهو أكبر الجزاء ، فليس في الآخرة عمل ، وإنما في الآخرة تسجيل الصلاح ، والجزاء عليه ، وأنه يكون الصالح الذي جعل له لسان صدق في الآخرين .
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه في زمرة الصالحين الذين نالوا رضوان الله بقوله:{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فأكد بإن الدالة على توكيد الخبر ، وأكد ب "اللام"في قوله لمن الصالحين ، وأكده بتقديم في الآخرة ، وذلك التأكيد لأنه من الذين وصلوا إلى أعلى درجات الصلاح .