إبراهيم يطرح دعوة الإسلام:
وتبدأ مسيرة الرسالات الواحدة من إبراهيم ،فليس هناك تنافٍ بين طبيعة رسالةٍ ورسالةٍ ؛بل هو التنوّع في التفاصيل في النطاق الموحّد الذي تمثّله كلمة الإسلام ،فكلّ الرسالات السَّماوية التي جاءت من بعد إبراهيم تعتبر خطوة متقدّمة في طريق إبراهيم نحو الهدف الواحد ،لأنّ الحياة لا بُدَّ من أن تخضع للّه في كلّ مجالاتها وخطواتها وتطلّعاتها ،ولا بُدَّ للإنسان من أن يخشع للّه في قلبه وفي فكره وحياته ،فيُسلم كلّ وجهه للّه ؛فلا كلمة له أمام كلمة اللّه ،ولا شريعة له أمام شريعة اللّه ..
إنها الإيجابية الإيمانية التي ترتكز على السلبيّة المطلقة أمام اللّه ،لأنها تتمثّل في تركيز الإرادة على ما يريده اللّه ،لا على ما تريده النفس الأمّارة بالسوء ،إنها الانتظار الدائم لاستقبال كلمة اللّه ورسالاته ،كلّما غابت كلمة أو انتهت مدّة رسالة ،فلا عصبية لشخصحتى لو كان نبياًعلى حساب نبيّ آخر ،ولا استغراق في الارتباط برسالةٍ على حساب رسالةٍ أخرى ،فإنَّ الإسلام للّه يمثّل مواجهة الإنسان للحياة من خلال خضوعه للّه في كلّ أمر ،فالقضيةكلّ القضية لديههي أن يثبت له أنَّ هذه هي رسالة اللّه ،وأنَّ هذا رسول اللّه ،ليؤمن بالرسالة وبالرسول ،ويخضع لكلّ ما يفرضه عليه ذلك من أقوال وأفعال ...
وفي ضوء ذلك ،نفهم التقاء الأديان كلّها على القاعدة الأساسية في ملّة إبراهيم ،التي تمثّل الموقف الداخلي للإنسان المنفتح على اللّه في استسلام إيماني خاشعٍ ،ونكتشففي هذا الخطّمعنى الإيمان بجميع الأنبياء في العقيدة الإسلامية ،لأنهم يمثّلون العقيدة الواحدة في خطّ الإسلام الحقّ للّه ،فلا معنى للإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر ما دامت الرسالات واحدة في جميع الحالات .
ولعلّ هذا ما توحي به هذه الآيات ،التي تعتبر الإنسان الذي يرغب عن ملة إبراهيم أو يرفضها سفيهاً يقود نفسه إلى السفه ،لأنَّ إبراهيم لا يمثِّلُ نفسه في ما يدعو إليه ،كمن ينطلق من الشعور بالكفاءة الذاتية في دعوته وقيادته العامة ؛بل يمثّل الإنسان الذي اصطفاه اللّه واختاره في الدنيا من بين النّاس ليكون رسولاً له يحمل رسالته ويبلِّغها للنّاس ليهديهم إلى صراطه المستقيم ،وجعله في الآخرة من الصالحين الذين ينالون رضاه ،جزاءً لعمله وجهاده في سبيله واستسلامه له في كلّ شيء .
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرَاهِيم}التي ترتكز على التوحيد الخالص والإسلام الشامل للّه المنفتح على كلّ قيم الروح ،وخصال الخير ،واستقامة الخطّ ،وطهارة القلب ،وصفاء السريرة ...والتي تلتقي مع كلّ الرسالات في خطوطها العامة ،لأنها أصل الرسالات ،فكلّ رسالةٍ منفتحةٌ على ملّته وكلّ نبيّ يستوحي منه ،فهل يبتعد عنها ويعرض عن الالتزام بها{ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}من هؤلاء الجاهلين الذين لا يميّزون بين الحسن والقبيح والخير والشر ،فينحرفون بها عن خطّ الاستقامة إلى خطّ الانحراف .
{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}نبياً ورسولاً وإماماً وداعياً إلى الحقّ ،واخترناه من بين النّاس لذلك كلّه ،لتميّزه عنهم في عقله وروحه واستقامته وإخلاصه للّه ...وهكذا أردنا له أن يملك الموقع القويّ الذي يملك زمام الحياة في مسؤوليته الشاملة ،ليكون رسول اللّه إلى الإنسان ليخرجه من الظلمات إلى النور{ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}فهو في هذه الزمرة الطيبة الطاهرة التي انطلقت في الدنيا لتجسّد الصلاح في روحيتها وتفكيرها وسلوكها واستقامتها على خطّ اللّه ،وقد تمنى وهو في الحياة أن يلحقه اللّه بهؤلاء لينال الدرجة العليا التي ينالونها ،وليعيش القرب إلى اللّه الذي عاشوه وليبلغ النعيم الذي بلغوه .وهذا هو التعبير الكنائي عن صلاحه في الدنيا الذي يجعله من الصالحين في الآخرة ،وقد ارتفع في هذه الدرجة حتى جعله اللّه خليلاً .