{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ}ربما كان القول وحياً أو إلهاماً ،وربما كان فكراً وشعوراً وإحساساً يتحسس الإنسان فيه من داخل روحيته الذاتية وفكره الإيماني أنَّ اللّه يريد منه أن يسلم أمره إليه ،فلا تكون له كلمة أمام كلمته ،ولا خطّ غير خطّه ،ولا قضاء إلاَّ قضاؤه ،ولا منهج إلاَّ منهجه ،فإنَّ ذلك من وحي الإيمان الصافي النقي ،والعقل المنفتح على الحقيقة ،الذي يسمعمن خلالهأوامر اللّه ونهيه ووحيه إليه ،وقد عُبِّر في بعض الكلمات عن العقل بأنه «الرسول الباطني » ،{ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .فعاش الإسلام للّه بكلّ عمق الإيمان ،وبكلّ استقامة الطريق ،ووضوح المنهج وصفاء الشعور ،وانفتاح الروح ...ولم يكن إسلامه إسلامَ الكلمة المنطلقة من اللسان البعيدة عن القلب ،أو إسلام الرغبة والرهبة من دون قناعة ،أو إسلام الشكل من غير مضمون ،فذلك هو الإسلام الذي لا يعيش حركة الوجود في الذات ...إنه الصورة في الظاهر لا الحقيقة في الباطن ،إنه الإسلام الكلي ،لأنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يخلص له بكلّه ،ويستغرق في عبوديته له حتى لا يبقى لأحدٍ منه شيء ،حتى لنفسه ،ليكون محياه للّه ومماته له .
وهناك سؤال: هل كان الاصطفاء قد تمّ بعد أن أمره اللّه بأن يُسلم ،باعتبار أنَّ كلمة «إذ » هي في موضع نصب باصطفينا ؟
قد يكون الأمر كذلك على أساس الجانب التعبيري ،ولكنَّ ذلك ليس ضرورياً ،فربما كانت المسألة منطلقة من الإشارة إلى السبب في هذا الاصطفاء من خلال إخلاصه للّه في إسلامه المطلق له ،لأنَّ اللّه يختار لرسالته الإنسان الذي يعيش عمق الصفاء الروحي الذي يؤهله لاحتضان روح الرسالة بفكره ،وكلّ كيانه .وربما كان ذلك بدايةً للحديث عن حركته الرسالية التي ابتدأت من إحساسه الذاتي لتمتد في بنيه ،ما يوحي بأنه استطاع أن يجذّرها في الجيل الذي جاء بعده من خلال تجذرها في مهمته الرسالية .