وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ:{ وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم} وَأَيّ النَّاس يَزْهَد فِي مِلَّة إبْرَاهِيم وَيَتْرُكهَا رَغْبَة عَنْهَا إلَى غَيْرهَا . وَإِنَّمَا عَنَى اللَّه بِذَلِكَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى لِاخْتِيَارِهِمْ مَا اخْتَارُوا مِنْ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة عَلَى الْإِسْلَام ; لِأَنَّ مِلَّة إبْرَاهِيم هِيَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره:{ مَا كَانَ إبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 3 67 فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره لَهُمْ:وَمَنْ يَزْهَد عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه . كَمَا:1719 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ:ثنا يَزِيد , قَالَ:ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله:{ وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه} رَغِبَ عَنْ مِلَّته الْيَهُود وَالنَّصَارَى , وَاِتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة بِدْعَة لَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم - يَعْنِي الْإِسْلَام - حَنِيفًا , كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّه نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ إبْرَاهِيم . 1720 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ:ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله:{ وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه} قَالَ:رَغِبَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم وَابْتَدَعُوا الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة وَلَيْسَتْ مِنْ اللَّه , وَتَرَكُوا مِلَّة إبْرَاهِيم الْإِسْلَام .
إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه} . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ:{ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه} إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسه , وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى السَّفَه:الْجَهْل . فَمَعْنَى الْكَلَام:وَمَا يَرْغَب عَنْ مِلَّة إبْرَاهِيم الْحَنِيفِيَّة إلَّا سَفِيه جَاهِل بِمَوْضِعِ حَظّ نَفْسه فِيمَا يَنْفَعهَا وَيَضُرّهَا فِي مُعَادهَا . كَمَا:1721 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ:أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ:قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله:{ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسه} قَالَ:إلَّا مَنْ أَخْطَأَ حَظّه . وَإِنَّمَا نُصِبَ "النَّفْس "عَلَى مَعْنَى الْمُفَسَّر ; ذَلِكَ أَنَّ السَّفَه فِي الْأَصْل لِلنَّفْسِ , فَلَمَّا نُقِلَ إلَى "مَنْ "نُصِبَتْ "النَّفْس "بِمَعْنَى التَّفْسِير , كَمَا يُقَال:هُوَ أَوْسَعكُمْ دَارًا , فَتَدْخُل "الدَّار "فِي الْكَلَام عَلَى أَنَّ السِّعَة فِيهِ لَا فِي الرَّجُل . فَكَذَلِكَ النَّفْس أُدْخِلَتْ , لِأَنَّ السَّفَه لِلنَّفْسِ لَا ل "مَنْ "; وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَال سَفِهَ أَخُوك , وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُفَسَّر بِالنَّفْسِ وَهِيَ مُضَافَة إلَى مَعْرِفَة لِأَنَّهَا فِي تَأْوِيل نَكِرَة . وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة:إنَّ قَوْله:{ سَفِهَ نَفْسه} جَرَتْ مَجْرَى "سَفِهَ "إذَا كَانَ الْفِعْل غَيْر مُتَّعَد . وَإِنَّمَا عَدَّاهُ إلَى "نَفْسه "و "رَأْيه "وَأَشْبَاه ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَعْنَى نَحْو سَفِهَ , إذَا هُوَ لَمْ يَتَعَدَّ . فَأَمَّا "غَبَنَ "و "خَسِرَ "فَقَدْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْره , يُقَال:غَبَنَ خَمْسِينَ , وَخَسِرَ خَمْسِينَ .
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ:{ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَا إبْرَاهِيم , وَالْهَاء الَّتِي فِي قَوْله:{ اصْطَفَيْنَاهُ} مِنْ ذِكْر إبْرَاهِيم . وَالِاصْطِفَاء:الِافْتِعَال مِنْ الصَّفْوَة , وَكَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا افْتَعَلْنَا مِنْهُ , صُيِّرَتْ تَاؤُهَا طَاء لِقُرْبِ مَخْرَجهَا مِنْ مَخْرَج الصَّاد . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ:{ اصْطَفَيْنَاهُ} اخْتَرْنَاهُ وَاجْتَبَيْنَاهُ لِلْخِلَّةِ , وَنَصِيرهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْده إمَامًا . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ إبْرَاهِيم فِيمَا سَنَّ لِمَنْ بَعْده فَهُوَ لِلَّهِ مُخَالِف , وَإِعْلَام مِنْهُ خَلْقه أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِإِبْرَاهِيم مُخَالِف ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذِكْره أَخْبَرَ أَنَّهُ اصْطَفَاهُ لِخِلَّتِهِ , وَجَعَلَهُ لِلنَّاسِ إمَامًا , وَأَخْبَرَ أَنَّ دِينه كَانَ الْحَنِيفِيَّة الْمُسْلِمَة . فَفِي ذَلِكَ أَوْضَح الْبَيَان مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوّ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِمَام الَّذِي نَصَبَهُ اللَّه لِعِبَادِهِ .
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى:{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ} . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ:{ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ} وَإِنَّ إبْرَاهِيم فِي الدَّار الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ . وَالصَّالِح مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ , وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ .