{ ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة:145 )
التفسير:
في قوله تعالى:{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أمران متنازعان: قسَم ،وشرط ؛قَسَم مدلول عليه باللام ؛لأن اللام واقعة في جواب القسم المقدرأي: والله لئن ؛والثاني المنازع للقسَم: «إن » الشرطية ؛وكل من القسم ،والشرط يحتاج إلى جواب ؛فجواب القسم:{ما تبعوا قبلتك} ؛والمحذوف جواب الشرط ؛لأن الشرط مؤخر ؛فاستغنى عن جوابه بجواب القسم ؛يقول ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم وقوله تعالى:{أتيت} بمعنى جئت ؛و{الذين أوتوا الكتاب} يعني اليهود ،والنصارى ؛و{بكل آية} الباء للمصاحبة ؛والمعنى: مصطحباً كل آية ؛ويحتمل أن تكون الباء للتقويةأي: تعدية الفعل ؛و «الآية » العلامة على صدق ما أتيت به إليهم ؛يعني: إن أتيتهم بكل آية تدل على صدق ما أتيت به{ما تبعوا قبلتك} أي الكعبة ؛لعنادهم ،واستكبارهم .
قوله تعالى:{وما أنت بتابع قبلتهم}: الواو هنا استئنافية ؛لأننا لو جعلناها عاطفة على قوله تعالى:{ما تبعوا قبلتك} لصار المعنى: وما أنت بتابع قبلتهم في حال إتيانك بالآيات التي تدل على صدق ما جئت به ؛ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتبع قبلتهم مطلقاً ؛وهذا هو السر في التعبير - والله أعلم بالجملة الاسمية في قوله تعالى:{وما أنت بتابع} ،وفي الكلام عنهم أتى بالجملة الفعلية في قوله تعالى:{ما تبعوا قبلتك} .
قوله تعالى:{وما بعضهم} أي الذين أوتوا الكتاب{بتابع قبلة بعض}: فاليهود لا تتبع قبلة النصارى ؛والنصارى لا تتبع قبلة اليهود ؛لأن النصارى يقولون: إن اليهود كفار ؛واليهود يقولون: إن النصارى كفار ليسوا على حق ؛ولهذا يكذبون عيسى ( ص ) .
قوله تعالى:{ولئن اتبعت أهواءهم}: نقول فيها مثلما قلنا في قوله تعالى:{ولئن أتيت}؛ففيها قَسَم ،وشرط ؛والجواب للقسموهو قوله تعالى:{إنك إذاً ...}؛والخطاب للنبي ( ص ) ؛و «إن » الشرطية لا تستلزم وقوع شرطها ؛وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل: هل من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ؟الجواب: لا يمكن ؛و«إن » الشرطية لا تستلزم وقوع جواب شرطها: ألم يقل الله سبحانه وتعالى:{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [ الزمر: 65]؛وإشراك النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً وقوعه ؛وكذلك قوله تعالى:{قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [ الزخرف: 81]؛ووجود الولد لله لا يمكن .
وقوله تعالى:{أهواءهم} جمع هوى ،وهو الميل ؛ومنه يقال للنجم: «هوى » إذا مال ،وسقط ؛ويطلق «الهوى » في الغالب على الميل عن الحق ؛ويقابله «الهدى » ؛فيقال: اتبعَ الهوى بعد الهدى ؛وإن صح الحديث وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به »{[194]} - فهو دليل على أن الهوى يكون في الخير كما يكون في الشر .
قوله تعالى:{من بعد ما جاءك من العلم} متعلق ب{اتبعت}؛يعني: إذا وقع هذا الاتباع بعد العلم فإنه يكون الظالم ؛وقوله تعالى:{من بعد ما جاءك} وردت في القرآن على ثلاثة أوجه ؛هذا أحدها ؛والثاني{بعد ما جاءك من العلم}؛والثالث:{بعد الذي جاءك من العلم} ،أما{بعدما جاءك من العلم} ،و{بعد الذي ...} فلا فرق بينهما إلا أنه عبر ب{ما} عن{الذي}؛وأما{من بعد ما جاءك} فهي أبلغ من قوله تعالى:{بعد الذي جاءك}؛لأن{مِن} تدل على أنه جاءه العلم ،وتمهل ،وحصل هذا الأمر بعد مجيء العلم ؛نظير ذلك قوله تعالى:{ومن بيننا وبينك حجاب} [ فصلت: 5]؛فهو أشد مما لو قالوا: «بيننا وبينك حجاب » ؛لأن{مِن} تدل على مسافة قبل الحجاب ،ثم حجاب ،والمراد ب «العلم » الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى:{إنك إذاً لمن الظالمين}: أكدت ب{إن} واللام ؛وهذه الجملة جواب القسم ؛و{إذاً} ظرف ؛وهنا أدوات ثلاث: إذ ،وإذا ،وإذاً ؛وهذه الأدوات الثلاثة تنازعت الأزمنة: «إذ » للماضي ؛و «إذا » للمستقبل ؛و «إذاً » للحاضر ؛فمعنى{إنك إذاً} أي إنك في حال اتباعك أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم{لمن الظالمين} أي المعتدين الذين نقصوا الواجب عليهم من اتباع الحق دون الأهواء .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الخلق ؛لأن قوله تعالى:{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية} دليل على أنه ( ص ) كان يعرض الآيات ،ويبين الحقائق ؛ولكن لا ينتفعون بها .
2 ومنها: شدة عناد هؤلاء الذين أوتوا الكتاب ؛وأنهم مهما أوتوا من الآيات فإنهم لن ينصاعوا لها ،ولن يتبعوها .
3 ومنها: أن الذين أوتوا الكتاب لن يتبعوا قبلة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وإذا كان كذلك فلن يتبعوا دينه ؛لأن القبلة بعض الدين ؛فمتى كفروا بها فهو كفر بالدين كله .
4 ومنها: أن الكعبة قبلة للمسلمين خاصة ؛لأنه تعالى أضاف استقبالها إليهم ؛ولكن الظاهروالله أعلمأن الكعبة قبلة لكل الأنبياء ؛لقوله تعالى:{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} [ آل عمران: 96وهكذا قال شيخ الإسلام: إن المسجد الحرام قبلة لكل الأنبياء ؛لكن أتباعهم من اليهود ،والنصارى هم الذين بدلوا هذه القبلة .
5 ومنها: وجوب الانقياد للحق إذا ظهرت آياته ؛لأن هذه الآية سيقت مساق الذم ؛فدل هذا على وجوب اتباع الحق إذا تبينت الآيات .
6 ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يكون تابعاً لقبلتهم ؛لأن قبلتهم التي يدعونها لم تثبت شرعاً ؛ثم لو فرض أنها جاءت في شرائعهم فإنها نُسِخت بقبلة الإسلام .
7 ومنها: أنه يستحيل شرعاً أن يتبع المسلم طريقة اليهود ،والنصارى ؛لقوله تعالى:{وما أنت بتابع قبلتهم}؛وجه الاستحالة: أن الجملة جاءت بالاسمية المؤكدة بحرف الجر في سياق النفي ؛فالمؤمن حقيقة لا يمكن أن يتابع أعداء الله ،ولا أن يأخذ بآرائهم ،وأفكارهم ،واتجاهاتهم ؛وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غاية الحماية ،حيث قال: «من تشبه بقوم فهو منهم »{[195]} ،حتى نحذر ونبعد عن التشبه بأعداء الله ،والتقليد لهم سواء في أمور العبادة ،أو في أمور العادة ؛فإن التشبه بأعداء الله حرام: وقد يؤدي إلى الكفر ،والشركوالعياذ بالله .
8 ومن فوائد الآية: أن اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم بعضاً ؛بل يضلل بعضهم بعضاً ؛فاليهود يرون النصارى ليسوا على شيء من الدين ؛والنصارى يرون اليهود ليسوا على شيء من الدين أيضاً ؛كل منهم يضلل الآخر فيما بينهم ؛كل واحد منهم يرى أن الآخر ليس على ملة صحيحة ؛ولهذا قال تعالى:{وما بعضهم بتابع قبلة بعض} [ البقرة: 145]؛فقبلة اليهود إلى بيت المقدسإلى الصخرة ؛وقبلة النصارى إلى المشرق يتجهون نحو الشمس ؛لكنهم على الإسلام يد واحدة بعضهم لبعض وليّ ،كما قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [ المائدة: 51]؛لأنهم كلهم أعداء للإسلام .
9 ومن فوائد الآية: أن اتباع اليهود والنصارى اتباع للهوى لا للهدى ؛لقوله تعالى:{ولئن اتبعت أهواءهم} .
10 ومنها: أن اليهود والنصارى ليسوا على هدى ،حيث جعل الله سبحانه وتعالى ما هم عليه هوى ،وليس بهدى .
11 ومنها: أن الإنسان لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد قيام الحجة ؛لقوله تعالى:{من بعد ما جاءك من العلم}؛فالإنسان قد يتابع غيره جهلاً ؛فلا يؤاخذ بهوإن كان يسمى ضالاً ؛لكنه ليس بظالم ؛لأنه لم يتعمد المخالفة ؛لا يتحقق الظلم إلا لمن عرف الحق وخالفه .
12 ومنها: التلطف في الخطاب للرسول ( ص ) ؛لقوله تعالى:{لمن الظالمين}؛لأنك لو قلت لرجل: «أنت رجل ظالم » لكان أشد وقعاً من قولك له: أنت من الظالمين ؛ونظيره قوله تعالى:{عبس وتولى} [ عبس: 1عندما تقرؤها تظن أن العابس والمتولي غير الرسول صلى الله عليه وسلم ؛تظن أنه رجل آخر ؛ولكن المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم .
13 ومنها: بيان أن العلم حقيقة هو علم الشريعة ؛لقوله تعالى:{من بعد ما جاءك من العلم}: أتى ب «أل » المفيدة للكمال ؛ولا شك أن العلم الكامل الذي هو محل الحمد والثناء هو العلم بالشريعة ؛ولذلك نقول: إن عصر النبوة هو عصر العلم ؛وليس عصرنا الآن هو عصر العلم الذي يمدح على الإطلاق ؛لكن ما كان منه نافعاً في الدين فإنه يمدح عليه لهذا .
14 ومنها: أن الظلم ،والعدل ،وغير ذلك مقرون بالأعمال ؛لا بالأشخاص ؛بمعنى أنه ليس بين الله تعالى وأحد من الخلق شيء يحابيه ،ويراعيه به ؛كل من خالفه فهو ظالم ؛فلا نقول مثلاً: هذا قريب من الرسول صلى الله عليه وسلم تكفر سيئاته لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛أو نقول: هذا إنسان من قريش من سلالة الأشرافمن سلالة بني هاشمتكفّر عنه سيئاته ؛فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله سبحانه وتعالى له:{ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين}؛فما بالك بمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم !!!فلا أحد يحابى من قِبل الله عزّ وجلّ من أجل نسبه ،أو حسبه ،أو جاهه بين الناس: قال الله تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [ الحجرات: 13] .
15 ومن فوائد الآية: قد يرد التعليق على شرط لا يمكن تحققه ؛لقوله تعالى:{ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين}؛فهذا الشرط لا يمكن أن يقع من رسول الله ( ص ) .
16 ومنها: تحذير الأمة من اتباع أهواء غير المؤمنين ؛وجه ذلك أنه إذا كان هذا الوصف يكون للرسول ( ص ) لو اتبع أهواءهم فالذي دونه من باب أولى ؛فعلينا أن نحذر غاية الحذر من اتباع أهواء أعداء الله ؛فالواجب على علماء الأمة أن يحذِّروها مما وقعت فيها الآن من اتباع أهواء أعداء الله ،ويبينوا لهم أن اتباع أهوائهم هو الظلم ؛والظلم ظلمات يوم القيامة ؛والظلم مرتع مبتغيه وخيم .