موقف العناد والجهود الضائعة:
] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ[ لأنهم لا يريدون الانفتاح على رسالتك ،فقد أغلقوا كلّ النوافذ الروحية والفكرية التي تطلّ على الحقّ ،ولذلك فإنَّ الجهد الذي تصرفه معهم من أجل أن تقنعهم بالحقّ الذي معك ،هو جهد ضائع لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة ؛فالقضية ليست قضية الدلائل والبينات التي تقدّمها إليهم كثرةً أو قلّة ،بل هي الباب المغلق الذي يقفون خلفه ولا يريدون الخروج منه ،فلو أنك قدّمت لهم كلّ الآيات ما اتبعوا قبلتك .
كما أنَّكمن خلال الحقّ الذي تؤمن بهلا تتبع قبلتهم .ثُمَّ إنَّ القضية ليست قضية العناد الذي لا يلين للحقّ معك ،بل إنَّ الموقف الذي يحكم علاقة بعضهم ببعض يتخذ الأسلوب نفسه ،فإنَّ اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا ،أمّا النصارى فيستقبلون المشرق أينما كانوا دون أن يتنازل أحدهم للآخر ،] وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ[.
وتنطلق الآية أخيراً في مواجهة الموقف بأسلوب التهديد لأيّة حالة من حالات الاستسلام للضغوط المتنوّعة التي يمكن أن يخضع لها المسلمون في مثل هذه المجالات ...وتزداد المواجهة حدّة وتأكيداً بتوجيه الخطاب إلى النبيّ محمَّد ( ص ) كأسلوب من أساليب القرآن في الإيحاء للأمّة بخطورة القضية ،فإنَّ القوم لا ينطلقون من موقف فكري للحقّ بل يتحرّكون من خلال أهوائهم .
] وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ[ الذين يظلمون أنفسهم فيبتعدون بها عن الحقيقة الأصيلة التي انفتحوا عليها من خلال المعرفة العميقة الواسعة ،ويظلمون العقل الذي يمثّل القاعدة لوجودهم الإنساني ،الذي يركز لهم كلّ خطواتهم في الحياة ويضعها على الدرب المستقيم ،ويظلمون مصيرهم الذي يتحرّكون به إلى النّار بدلاً من الجنّة .
فكيف يمكن لمن يملك وضوح الرؤية للموقف أن يستسلم لأهواء الآخرين ؟!إنَّ النتيجة ستكون استسلاماً لنوازع الظلم للذات وللقضية وللأمّة ،ما يجعل المصير في اتجاه مصير الظالمين .