إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت المقدس ، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ، فليس ذلك لجهل منهم بالحق ، كما بينا ، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم ، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغني الآيات والنذر ، ولا تزيدهم البينات إلا خسارا ، لذا قال تعالى:{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} .
اللام في قوله تعالى:{ ولئن أتيت الذين} هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا ، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط ، وهو{ ما تبعوا قبلتك} أي والذي يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكي يتبعوا قبلتك ما اتبعوها ، لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل ، بل هم معاندون مكابرون ، لا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارا ، ولقد قال تعالى:{ بكل آية} ، أي لو جمعت الحجج كلها ، ورميت بها ، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا .
وقال المفسرون:إن الكلام فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال:{ ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب} وكان موضع الإضمار ، لأنهم ذكروا بهذا الإسلام في الآية السابقة ، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم ، وإنغاض رءوسهم عن الحق وقد قامت أمارته وأدلته مما بين أيديهم ، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك .
ولقد قال الله تعالى بأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه لا يتبع قبلتهم ، لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر ، ولذا قال:{ وما أنت بتابع قبلتهم} أي أنت على الحق ، ولست بتابع باطلهم ، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم ، وبضمير الخطاب وهو أنت ، أي أنت بصفتك التي في علمهم ، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون ، وأكده أيضا بالباء في{ بتابع} الدالة على استغراق النفي وتأكيده ، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه في إتباع القبلة تبعا له وهم من ورائه وهو إمامهم .
كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية ، ولقد روي أن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس ، وقد كانوا يقولون:لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرا وخداعا ،{ وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون 9} [ البقرة] .
وإنه في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة ، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم ، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد ، لا كما جاءت به نصوص عندهم ، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها ، لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها ، لانتهاء دياناتهم ، وبطلان ما هم عليه ، بما فيها قبلتهم .
ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم:{ وما بعضهم بتابع قبلة بعض} أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا ، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها ، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهم ، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته ، ويعاند الآخر ، ويستكبر عن إتباع قبلته ، فهم في عناد مستمر ، وكلاهما يتبع هواه ، ولا يتبع نصا جاء به دينه ، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه إتباعا لنص ، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة ، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد ، ولذا قال تعالى:{ ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم} .
أي لئن اتبعت ما يدعون إليه ، وليس له مصدر ديني عندهم ، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى ، والأهواء جمع هوى ، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم ، إذ اتخذوا إلههم هواهم ، ومن اتبع هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة ، لا من دين اتبعوه ، ولا من نصوص ، بل هواهم ، وليس كمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ){[120]} ، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم ، وتبعا لانحراف في نفوسهم .
{ لئن} اللام فيها دالة على القسم ، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط ، وهو قوله تعالى منبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون{ إنك إذا لمن الظالمين} ففي هذا تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته ، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإتيان الهوى ، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين .
وقوله تعالى:{ إنك إذا لمن الظالمين} فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم ، إذ معنى إذن ، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع ، فبسببه تكون من الظالمين ، فوقوع "إذن"بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية .
هذا وإن الكلام فرضي لا واقعي ، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه ، فالمعنى:إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم ، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم ، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم . وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى ، وهو عالم غير غافل أولا بإن ، وثانيا باللام ، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات ، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى ، وموافقة الآثمين في إثمهم ، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال .