إن أهل الكتاب جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رسالته ، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا بالنبي المنتظر في حروبهم مع المشركين ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقد جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر القبلة ، وظنوا أنهم يستطيعون إغراءه عليه الصلاة والسلام بقبلتهم ، وهم يعلمون أن أمرها معروف في التوراة عندهم ، ولهذا سجل الله تعالى معرفتهم له صلى الله عليه وسلم معرفة مستيقن وهو علم جازم قاطع فقال تعالى:{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناهم} وذلك تشبيه يفيد اليقين في المعرفة ، فإن الإنسان لا يمكن أن يجهل ولده الذي يعرف نسبه ساعة من زمان ما دام عاقلا مدركا ، وقد يجهل نفسه في الوقت الذي لم يكن قد بلغ فيه سن التمييز ، فكما أن الذين أوتوا الكتاب لا يمكن أن يجهلوا أبناءهم الذين من أصلابهم ، فكذلك لا يجهلون الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لعبد الله بن سلام ، وهو ممن آمن من أهل الكتاب:أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك ؟ فقال عبد الله بن سلام:نعم وأكثر ، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه ، والضمير في قوله{ يعرفونه} يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن بعض شريعته موضوع المحاجة بين نبيه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود ، وهو حاضر في العقول والنفوس دائما .
ومعرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم معرفة لرسالته ، وما جاء به من حلال وحرام ، وللأرض التي يبعث منها ، ولقومه الأميين ، ولقد قال تعالى في ذكره عليه السلام في كتبهم:{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون 157} [ الأعراف] .
وإن أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا من وقت بعث محمد صلى الله عليه وسلم قسمين:قسم آمن واهتدى ، وقسم كابر وعاند فغوى ، ولذلك قال:{ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} أي أن فريقا من أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ليكتمون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعلنوا قبل مبعثه أنهم يعرفونه ، وكانوا يستفتحون به على المشركين ، وعبر سبحانه وتعالى عن النبي وشريعته ، وأظهر في موضع الإضمار ، فقال:{ ليكتمون الحق} ، وذلك لبيان فساد نفوسهم ومقام ما أنكروه من رسالة ونبوة وشريعة ، فهم يكتمون الحق ، ومن يكتم الحق يكتم النور ، ولا بد من أن يظهر ، ثم أكد فساد نفوسهم ، فقال:{ وهم يعلمون} ، أي والحال أنهم يعلمون أنه حق ، وأن من يكتم الحق يضل ويفسد ، فهم يعلمون أن فعلهم إثم ، ويعلمون نتائج ذلك الإثم ، ولكنهم في غي دائم وضلال مستمر .
هذا بشأن الذي يعلمون الحق ويكتمونه ، وبالإشارة إليه يتبين أن هناك من يقر به ، ويؤمن به ، وقوله تعالى:{ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} قد يشير إلى أن هناك من لا يعلم ، كما قال تعالى:{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون 78} [ البقرة] وإثم هؤلاء على من كتموا الحق وهم يعلمون فوق ما عليهم من إثم ، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الحق .