ويؤكد القرآن من جديد أنَّ أهل الكتاب لا يعيشون حالة جهل للنبيّ ولرسالته ،فقد عرّفتهم التوراة صفاته جيداً ،فعرفوه في وضوح من الرؤية كما عرفوا أبناءهم ،ولكنَّهم يكتمون الحقّ وهم يعلمونه نتيجة عنادهم وتمرّدهم وضلالهم .ويختم الموقف بأنَّ الحقّ من اللّه ،فلا مجال فيه للشك والريب ،والتوقف أمام أيّ موقف من مواقف التحدّي الذي يمارسه الباطل ضدّ الحقّ ؛ثُمَّ يحدّد القضية بشكل حاسم ،فلكلّ إنسان وجهة في حياته يصرف وجهه إليها ويتجه نحوها ؛فأهل الباطل يتجهون إلى رموز الباطل وعلاماته ،وأهل الحقّ يتجهون إلى رموز الحقّ وعلاماته .ولكلّ واحد منهم عمل ،فأهل الخير يتحرّكون في اتجاه الخير ويتسابقون نحوه ،وأهل الشر يتحرّكون في اتجاه الشر ويستبقون إليه .
ثُمَّ يطرح النداء الحاسم للمؤمنين أن يستبقوا الخيرات في كلّ موقف وفي كلّ منعطف ،ليعرفوها ويعيشوها فكراً وشعوراً وعملاً ،وستكون نهاية الجميع عند اللّه ،فإنَّ اللّه لا يفوته أحد ولا يعجزه مطلوب ؛مهما ابتعد ومهما نأى ،فسيأتي به اللّه لأنه على كلّ شيء قدير .
] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ[ وهم العلماء منهم ،] يَعْرِفُونَهُ[ أي رسول اللّه في صدقه في نبوّته ،] كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ[ في وضوح الرؤية وإشراقة اليقين من خلال بشارة التوراة والإنجيل به ،وحديثهما عنه بأوصافه ودلائله التي تشير إليه ،وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى:] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [ الأعراف:157] ،وقوله:] وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِى إِسْرَائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[ [ الصف:6] .
واحتمل بعضهم أن يكون الضمير في] يَعْرِفُونَهُ[ عائداً إلى الكتاب ،ولكنَّه غير ظاهر لأنه لا مناسبة له في السياق العام في موضوع الجدال الذي يدور حول النبيّ والنبوّة أمام مفردات التشكيك التي تُوجّه إليه ،كما أنَّ تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء قد يوحي بذلك ،فإنه يُقال في الإنسان إنَّ فلاناً يعرفه كما يعرف ولده ولا يُقال ذلك في الكتاب .
] وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ[ الذي قامت الحجّة عليهم به بمعرفته اليقينية] وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ لأنهم لا يملكون أساساً لأية شبهةٍ في ذلك .