وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجاور اليهود ، والمؤمنون كانوا يختلطون بهم ، ومنهم من كانت لهم محالفة ببعض منهم ، ولذلك ثبت الله قلوب المؤمنين ، حتى لا تجرهم المودة إلى أهوائهم ، أو الشك فيما عندهم ، ولذا قال تعالى:{ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} .
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى أنه لا يجوز لمن جاءه الحق هو ومن معه أن يتبعوا أهواء الذين أوتوا الكتاب ، وأن من يفعل ذلك يكون من الظالمين ظلما مؤكدا لا مرية فيه ، بعد هذا بين أن ما عند النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين هو الدين وأنه الحق فقال:{ الحق من ربك} أي الحق الجدير بالاتباع الذي لا ريب فيه هو الذي ينزل عليك من ربك وما غيره باطل لا يتبع ، فإن خالفت ما جاء من ربك ، فقد خالفته إلى الظلم ، لأن ما عداه سير وراء هوى التعصب المنحرف والشرك ، وقوله:{ من ربك} إشارة إلى أنه من عند الله ذي الجلال الذي رباك وعلمك وهذبك وهداك ، وهو الذي يعلم ما ينفع وما يضر وما فيه الهداية وما فيه الضلال .
وإذا كان الحق لا يكون إلا ما هو من جانب الله وأن ما عند غيره هو هوى النفوس ، ووسوسة الشياطين{ فلا تكونن من الممترين} الفاء لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها ، والمعنى إذا كان ما نزل عليك هو الحق من منزل الحق الذي لا ريب فيه فلا تكونن من الممترين . والامتراء التردد بين الشك واليقين ، وقد يطلق على مجرد الشك لتردده بين اليقين والشك ، بل إن هذا التردد هو الشك في ذاته ، فمعنى الشك موجود ، واحتمال الشك ولو من وجه ينافي العلم الجازم .
والنهي عن الامتراء نهي عن أن تدخل أسبابه النفس ، وأمر باليقين الدائم . ويقول بعض المفسرين:إنه أمر بالاحتياط والتوقي ، ذلك أن الشك يدخل النفوس بسريان ما عند أهل الأهواء إلى غيرهم ، يبتدئ باستحسان ما عندهم ، وأول الشر استحسانه ، ثم يدخل الشر إلى النفس شيئا فشيئا حتى يحدث الشك فيما عنده .
وقال الله تعالى:{ فلا تكونن من الممترين} ، أي لا تدخل في صفوف أهل الشك ، وفي ذلك إيذان بأنه شك فيما عنده لدخل في صف الذين يمارون في الحق ويشككون فيه .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته ، فإن الشك أو الامتراء غير متصور منه ، وغير متصور أن تكون من النبي صلى الله عليه وسلم أسباب الامتراء أو أن يدخل في صفوف المرتابين في أمر ربهم الذين يكتمون الحق وهم يعلمون ، إنما هو أمر لأمته ، بأن يحتاطوا لدينهم الحق ، فيزيدوا أنفسهم دائما بالعلم الذي يزيدهم إيمانا ، وبالقيام بالفرائض ، واتباع السنن التي تزيدهم قوة في الاعتقاد ، وتبعدهم عن مواطن الشبهات فيزدادوا يقينا ، ولا يبعد الشك ويحدث الاطمئنان إلا العمل الصالح وذكر الله تعالى دائما{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28} [ الرعد] .