وإن الله تعالى ينبهنا إلى أننا يجب علينا أن نتجه إلى قبلتنا وشرعنا ، وليس علينا أن نغير ما عند غيرنا إن اتبعوا أهواءهم بعد أن نبين لهم الحق وندلهم عليه بالآيات البينات ، فإن أعرضوا فلهم أعمالهم ، ولنا أعمالنا ، ولذا قال تعالى:{ ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات} .
الوجهة قال كثير من المفسرين إنها القبلة ، والتنكير في "لكل"دال على محذوف ، والمعنى:لكل ملة أو جماعة قبلة يتجهون إليها ، وتبين الحق في هذه الجهات ، ببينة الله المختارة من بينها ، وأن العبرة بعد الاتجاه إلى القبلة الحق أن تستبقوا الخيرات ، أي تسارعوا متسابقين إليها ، غير مدخرين جهدا في الوصول إلى الخير من عمل صالح ، وصلاة وصوم وزكاة ، وتعاون على البر والتقوى ، وهذا كقوله تعالى:{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر . . . 177} [ البقرة] .
هذا على تفسير الوجهة بالقبلة ، ويصح أن تفسر الوجهة بالملة أو الشريعة أو الحق كقوله تعالى:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون 48} [ المائدة] وكقوله تعالى:{ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم 67} [ الحج] .
وإن المعنى على هذا:إن لكل أمة اتجاها في اعتقاداتهم ، وهم سائرون على ملتهم التي اختاروها ، وعقيدتهم التي أرادوها ولهم طريقهم ومناهجهم ، ولا نجادلهم ، ولكن أمرنا بأن نستبق بالمسارعة في السبق إلى الخيرات ، أي كل ما هو فيه خير في ذاته ، وفيه نفع للناس والأنفس ، وما فيه تطهير القلوب ، والاتجاه بها إلى الله تعالى رب الوجود ومن في الوجود .
وإنه بعد الاستباق إلى الخير ، والاختلاف في الملة سيكون الحساب ، والثواب والعقاب ، وبيان الحق والباطل ، ولذا قال:{ أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا} وأينما اسم شرط دال على المكان ، وجواب الشرط يأت بكم الله جميعا .
والمعنى أنه في أي مكان كنتم لا بد أن يأتي الله تعالى بكم وتجتمعوا يوم القيامة ، فيعرف أهل الحق من أهل الضلال ، ويحاسب كل على ما قدم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وإن هذا النص السامي فيه تبشير وإنذار ، فيه تبشير لمن استبقوا إلى الخير ، وكان دينهم الحق ، وإنذار لمن اعتقدوا الباطل ، ولجوا فيه وعاندوا أهل الحق وكابروا .
وقوله تعالى:{ يأت بكم الله جميعا} فيه إشارة إلى أنها حياة لا يجيئون إليها مختارين ، بل يأتي بهم الله تعالى طائعين أو كارهين ، ومن يأتي بهم هو الله تعالى القاهر فوق عباده ، ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته:{ إن الله على كل شيء قدير} . وقد أكد قدرته بهذه الجملة السامية المؤكدة بأن والجملة الاسمية ، وتصديرها بلفظ الجلالة الدال على القدرة التي ليست فوقها قدرة ، وهو سبحانه وتعالى الغالب على كل هذا الوجود ، كل شيء في قدرته وفي سلطانه ، وهو العزيز العليم .