{ ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة:148 )
التفسير:
قوله تعالى:{ولكل وجهة هو موليها}؛الوجهة ،والجهة ،والوجه ،معناها متقارب ؛أي: لكل واحد من الناس جهة يتولاها ؛وهذا شامل للجهة الحسية ،والمعنوية ؛مثال الحسية: اختلاف الناس إلى أين يتجهون في صلاتهم: فمنهم من يتجه نحو المشرق ؛ومنهم من يتجه نحو بيت المقدس ؛ومنهم من يتجه إلى الكعبة ؛واختلاف الناس كذلك في اتجاههم في العمل: فمنهم من يتجه للتجارة ؛ومنهم من يتجه للحدادة ؛ومنهم من يتجه للنجارة ...وهكذا ؛ومثال المعنوية: اختلاف الناس في الملل ،والنحل ،وما أشبه ذلك .
وقوله تعالى:{هو موليها} فيها قراءتان ؛الأولى: بكسر اللام ،وياء ساكنة بعدها -{مولِّيها} - على أنها اسم فاعل ؛والقراءة الثانية: بفتح اللام ،وألف بعدها -{مولَّاها} - على أنها اسم مفعول ؛فالمعنى على القراءة الأولى: هو متجه إليها ؛والمعنى على القراءة الثانية: هو موجَّه إليها إما شرعاً ؛وإما قدراً ؛وإما شرعاً وقدراً ؛وجملة:{هو موليها} ،أو{هو مولاها} في محل رفع صفة ل{وجهة}؛وليس المراد بهذه الجملة إقرار أهل الكفر على كفرهم ؛وإنما المراد - والله أعلم - تسلية المؤمنين ،وتثبيتهم على ما هم عليه من الحق ؛لأن لكل أحد وجهة ولَّاه الله إياها حسب ما تقتضيه حكمته .
قوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} أمر من الاستباق ؛والمراد به التسابق إلى الخيرات ؛وتعدّى بنفسه دون حرف الجر كأنه ضُمِّن معنى افعلوا على وجه المسابقة ؛وفائدة تضمين الفعل فعلاً آخر لأجل أن يدل التضمين على المعنيين ،كقوله تعالى:{عيناً يشرب بها عباد الله} [ الإنسان: 6] .
قوله تعالى:{أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً}؛«أين » شرطية ؛و «ما » زائدة للتوكيد ؛و{تكونوا} فعل الشرط مجزوم بحذف النون ؛والواو فاعل ؛لأن «كان » هنا تامة ؛وليست ناقصة ؛يعني: أينما توجدوا يأت بكم الله ؛و{يأت} جواب الشرط مجزوم بحذف الياء ؛والكسرة قبلها دليل عليها .
وقوله تعالى:{أينما تكونوا} في برّ ،أو بحر ،أو جوّ فإن الله يأتي بكم جميعاً ،وذلك يوم القيامة ،حيث يحشر الله الأولين ،والآخرين في مقام واحد .
قوله تعالى:{إن الله على كل شيء قدير}: هذه جملة خبرية مؤكدة ب{إن}؛عامة في كل شيء من موجود ،أو معدوم ؛و «القدرة » صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: أن الأمم قد تختلف مناهجهاوإن اتفقت على أصل واحد ؛وهو الإسلام ؛ونعني ب«الإسلام » المعنى العام ؛وهو الاستسلام لله بشرائعه القائمة التي لم تُنسَخ .
2 ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يتبع الحق أينما كان ؛ولا ينظر إلى كثرة المخالف ؛لا يقل: الناس على كذا فكيف أشذ عنهم !بل يجب عليه أن يتبع الحق ؛لأن قوله تعالى:{ولكل وجهة} يشمل الوجهة الشرعية ،والوجهة القدرية ؛يعني ما وجه الله العباد إليه شرعاً ،وما وجههم إليه قدراً ؛الوجهة القدرية معروفة: فمن الناس من يهديه الله تعالى فيكون اتجاهه إلى الحق ؛ومن الناس من يُخذَل فيَضل ،ويكون اتجاهه إلى الباطل ؛فالوجهة التي يتبعها المشركون ،واليهود ،والنصارى ،وما أشبه ذلك هذه وجهة قدرية ؛أما شرعية فلا ؛لأن الله ما شرع الكفر أبداً ؛ولا شرع شيئاً من خصال الكفر ؛والوجهة الشرعية: اختلاف الشرائع بين الناس ؛فلا تظن أن اختلاف الشريعة الإسلامية عن غيرها معناه أنها ليست حقاً ؛فإنها الحق من الله .
3 ومن فوائد الآية: وجوب المسابقة إلى الخير ؛لقوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} .
4 ومنها: أن الأمر يقتضي الفورية ؛لأن الاستباق إلى الخير لا يكون إلا بالمبادرة إلى فعله ؛فهذه الآية مما يستدل به على أن الأمر المطلق للفورية .
5 ومنها: البلاغة التامة في قوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} دون «استبقوا إلى الخيرات » - وإن كان بعض الناس يقولون: إنها نُزِع منها حرف الجر ؛وليس بصحيح ؛لأن{فاستبقوا الخيرات} يشمل الاستباق إليها ،والاستباق فيها ؛فليس معناه: إذا وصلت إلى الخير فإنك تقف ؛بل حتى في نفس فعلك الخير كن مسابقاً ؛وهذا يشبهه قوله تعالى:{اهدنا الصراط المستقيم} [ الفاتحة: 6]؛فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط ،ويستمر فيه ؛ولهذا قال تعالى:{اهدنا الصراط المستقيم} [ الفاتحة: 6] .
6 ومن فوائد الآية: إحاطة الله تعالى بالخلق أينما كانوا ؛لقوله تعالى:{أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً} .
7 ومنها: الإشارة إلى البعث ؛لأن الإتيان بالجميع يكون يوم القيامة .
8 ومنها: إثبات عموم قدرة الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{إن الله على كل شيء قدير}؛وقد قال الله تعالى:{وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [ فاطر: 4] .
وهناك كلمة يقولها بعض الناس فيقول: «إن الله على ما يشاء قدير » ؛وهذا لا ينبغي:
أولاً: لأنه خلاف إطلاق النص ؛فالنص مطلق .
ثانياً: لأنه قد يفهم منه تخصيص القدرة بما يشاء الله دون ما لم يشأ ؛والله قادر على ما يشاء ،وعلى ما لا يشاء .
ثالثاً: أنه قد يفهم منه مذهب المعتزلة القدرية الذين قالوا: «إن الله عزّ وجلّ لا يشاء أفعال العبد ؛فهو غير قادر عليها » .
ولهذا ينبغي أن نطلق ما أطلقه الله لنفسه ،فنقول: إن الله على كل شيء قدير ؛أما إذا جاءت القدرة مضافة إلى فعل معين فلا بأس أن تقيد بالمشيئة ،كما في قوله تعالى:{وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} [ الشورى: 29]؛فإن{إذا يشاء} عائدة على «الجمع »؛لا على «القدرة »؛فهو قدير على الشيء شاءه ،أم لم يشأه ؛لكن جمعه لا يقع إلا بالمشيئة ؛ومنه الحديث في قصة الرجل الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى ،فقال: «ولكني على ما أشاء قادر »{[196]} ؛لأنه يتكلم عن فعل معين ؛ولهذا قال: «قادر »: أتى باسم الفاعل الدال على وقوع الفعل دون الصفة المشبهة«قدير »الدالة على الاتصاف بالقدرة .