{ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة:149 )
التفسير:
قوله تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}؛ما أعظم هذا الحدث ؛ولهذا أكده الله عدة مرات ؛{من} حرف جر ؛و{حيث} مبنية على الضم ؛قال ابن مالك في عدّ المبنيات:
كأينَ أمسِ حيثُ والساكن كمْ و{خرجت}: الخطاب هنا إما أن يكون للرسول ( ص ) ؛وإما أن يكون لكل من يتأتى خطابه ؛أي من حيث خرجت أيها الإنسان{فول وجهك شطر المسجد الحرام} أي مستقبلاً له ؛وذلك عند الصلاة ؛و{شطر المسجد} أي جهة المسجد ؛و{المسجد الحرام} هو المسجد الذي فيه الكعبة ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ...»{[197]} ؛بل لقوله تعالى:{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [ الفتح: 25]؛ووصِف بالحرام لاحترامه ،وتعظيمه .
قوله تعالى:{وإنه} أي توليك شطر المسجد الحرام{للحق} اللام هنا للتوكيد ؛فالجملة هنا مؤكدة بمؤكدين ؛أحدهما: «إن »؛والثاني: اللام ؛و «الحق » هو الشيء الثابت ؛لأنه محقوقأي مثبت ؛ومنه قوله تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} [ يونس: 96]:{حقت} بمعنى ثبتت ،ووجبت .
قوله تعالى:{من ربك} تقدم الكلام عليها ،وأنها ربوبية خاصة .
قوله تعالى:{وما الله بغافل}: الباء حرف جر زائد للتوكيد ؛والأولى أن نقول: «الباء للتوكيد » فقط ؛ولا نقول: «زائد » ؛لئلا يفهم السامع أن في القرآن ما ليس له معنى ؛و{غافل} خبر{ما} منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر ؛و «الغفلة » الذهول .
قوله تعالى:{عما تعملون} بالتاء: خطاب للمسلمين ؛وفي قراءة:{عما يعملون} بالياء: خطاب لهؤلاء الذين اعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم ؛فإن الله تعالى ليس بغافل عنهم ؛بل سوف يجازيهم بما يستحقون .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: وجوب التوجه إلى المسجد الحرام أينما كان الإنسان ؛لقوله تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}؛وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء ...} [ البقرة: 144] الآية{[198]} .
2 ومنها: تكرار الأمر الهام لتثبيته ،والثبات عليه ،ودفع المعارضة فيه ؛لأنه كلما كرر كان مقتضاه أن الأمر ثابت محكم يجب الثبوت عليه ؛وكون المسلمين ينقلون من وجهة إلى وجهة في القبلة أمر هام له شأن عظيم ؛ولهذا ارتد من ارتد من الناس حين حوِّلت القبلة .
3 ومنها: إثبات حرمة المسجد الحرام ،وتعظيمه ؛لقوله تعالى:{المسجد الحرام}؛فالمسجد محترم معظم ؛حتى ما حوله صار محترماً معظماً ؛فالبلد كله آمن حتى الأشجار التي لا إحساس لها آمنة في هذا المكان ؛ولهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها ،أو يعضد شوكها{[199]} ،أو يقطع شجرها{[200]} ،كل هذا لاحترام هذا المكان ،وتعظيمه .
4 ومنها: أن التوجه إلى الكعبة هو الحق ؛لقوله تعالى:{وإنه للحق من ربك} فأثبت فيه الحقية مؤكداً ب{إن} ،واللام .
5 ومنها: كمال علم الله سبحانه وتعالى ،ومراقبته لخلقه ؛لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون} .
6 ومنها: إضافة العمل إلى الإنسان ،فيكون فيه رد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{عما تعملون} ؛ولا شك أن الإنسان يضاف إليه عمله ؛وعمله: كسبه - إن كان في الخير - واكتسابه - إن كان في الشر - كما قال تعالى:{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [ البقرة: 286] .
والناس في هذه المسألةأعني مسألة أعمال العبادينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يرون أن الإنسان مجبر على العمل ؛لا يفعل شيئاً باختيار أبداً ؛وما فعله الاختياري إلا كفِعله الاضطراري: فمن نزل من السطح على الدرج درجة درجة هو كمن سقط بدون علمه من أعلى السطح ؛وهذا مذهب الجبرية من الجهمية ؛وهو مذهب باطل ترده الأدلة السمعية ،والعقلية .
القسم الثاني: من يرون أن الإنسان مستقل بعمله ،وأن الله سبحانه وتعالى لا يصرِّف العبد إطلاقاً ؛فالعبد له الحرية الكاملة في عمله ،ولا تعلق لمشيئة الله به ،ولا تعلق لتقدير الله ،وخلقه بعمل الإنسان ،وهذا مذهب المعتزلة القدرية ؛وهو مذهب باطل للأدلة السمعية ،والعقلية .
وكلا القسمين مع بطلانهما يلزم عليهما لوازم باطلة .
القسم الثالث: يرون أن فعل العبد باختياره ؛وله تعلق بمشيئة الله ؛فمتى فعل العبد الفعل علمنا أن الله تعالى قد شاءه ،وقدره ؛وأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريد ؛بل كل ما وقع فهو مراد لله مخلوق له ؛ووجه كون فعل العبد مخلوقاً لله: أن الإنسان مخلوق لله ؛وفعله كائن بأمرين: بعزيمة صادقة ؛وقدرة ؛والله عزّ وجلّ هو الذي خلق العزيمة الصادقة ،والقدرة ؛فالإنسان بصفاته ،وأجزائه ،وجميع ما فيه كله مخلوق لله عزّ وجلّ .
هذا القول الوسط هو الذي تجتمع فيه الأدلة جميعاً ؛لأن الذين قالوا: «إن الإنسان مجبر » أخذوا بدليل واحد ،وأطلقوا من أيديهم الدليل الآخر ؛والذين قالوا: «إنه مستقل » أخذوا بدليل واحد ،وأطلقوا الدليل الثاني من أيديهم ؛لكن أهل السنة ،والجماعةوالحمد للهأخذوا بأيديهم بالدليلين ؛وقالوا: الإنسان يفعل باختياره ؛ولكن تصرفه تحت مشيئة الله عزّ وجلّ ؛ولهذا إذا وقع الأمر بغير اختياره رُفع عنه حكمه: فالنائم لا حكم لفعله ،ولا لقوله ؛والمكره على الشيء لا حكم لفعله ،ولا لقوله ؛بل أبلغ من ذلك: الجاهل بالشيء لا حكم لفعله مع أنه قد قصد الفعل ؛لكنه لجهله يعفى عنه ؛كل ذلك يدل على أن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده .