) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( البقرة:150 )
التفسير:
قوله تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} هذه الجملة تقدم الكلام عليها ؛وكررت للتوكيد ،وبيان الأهمية ،والتوطئة لما بعدها ؛وهو قوله تعالى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة}؛{لئلااللام هنا للتعليل اقترنت بها «أن » المصدرية ،و «لا » النافية ؛و{يكون} فعل مضارع منصوب ب «أن » المصدرية ؛ولا يضر الحيلولة بين الناصب والمنصوب ب «لا » النافية ؛و{حجة} اسم{يكون} إن كانت ناقصة ؛أو فاعل إن كانت تامة ؛والمراد ب «الناس » كل من احتج على المسلمين بتحولهم من بيت المقدس إلى الكعبة ؛وقد احتج على المسلمين في هذه المسألة اليهود ،والمشركون ،والمنافقون ؛فالحجة التي احتج بها اليهود لها جهتان:
الأولى: أنهم قالوا: إن الرجل ترك ملتنا إلى ملة آبائه .
والجهة الثانية: أنه لو بقي على استقبال بيت المقدس لقالوا: ليس هذا النبي هو الذي جاء وصفه في التوراة .
وأما حجة المشركين فقالوا: إنه متبع هواه ؛فقد داهن اليهود أول أمره ،ثم عاد ،واستقبل الكعبة ؛وقالوا: «هذا الرجل خالفنا في عقيدتنا وخالفنا في ملتنا حين هاجر إلى المدينة ،ثم رجع إلى قبلتنا ؛فسيرجع إلى ديننا » .
وأما حجة المنافقين فقالوا: إن هذا الرجل لا يثبت على دينه ؛ولو كان نبياً حقاً لثبت على دينه .
وهذه عادة أهل الباطل يموِّهون ،ويقلبون الحق باطلاً ؛لأنهم يريدون غرضاً سيئاً ؛بل إن تحوله إلى استقبال الكعبة مع هذه الاعتراضات ،والمضايقات دليل على أنه رسول الله حقاً فاعل ما يؤمر به .
وقوله تعالى:{عليكم}: الضمير يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ؛لأن كل حجة يُحتج به على الرسول للتلبيس وإبطال الدعوة ،فهي في الحقيقة حجة على جميع أتباعه ؛لأن أتباعه إنما تبعوه لأنه على الحق ؛فإذا جاء من يُلَبِّس صار ذلك تلبيساً على جميعهمالتابع ،والمتبوع .
وقوله تعالى:{حجة} أي حجة باطلة ؛ولا يلزم من الاحتجاج قبوله ،كما قال تعالى:{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} [ الشورى: 16] أي باطلة .
قوله تعالى:{إلا الذين ظلموا منهم}؛المراد بهم المعاندون المكابرون الذين لا يَرْعَوون للحق مهما تبين ؛واختلف في الاستثناء أهو متصل ،أم منقطع ؟فمنهم من قال: إنه متصل ؛ومنهم من قال: إنه منقطع ،و{إلابمعنى «لكن » ؛يعني: لئلا يكون للناس عليكم حجة ؛لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم ،ومخاصمتهم ؛ومن قال: «إنه متصل » قال: يكون{الذين ظلموا} مستثنى من «الناس »؛لأن الناس منهم ظالم ؛ومنهم من ليس بظالم ؛والأقرب عنديوالله أعلمأن الاستثناء منقطع ؛لأن قوله تعالى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة} هذا عام شامل ؛لكن من ظلَم من اليهود ،أو المشركين ،فإنه لن يرعوي بهذه الحكمة التي أبانها الله عزّ وجلّ .
قوله تعالى:{فلا تخشوهم واخشوني} يعني مهما قال الذين ظلموا من كلام ،ومهما قالوا من زخارف القول ،ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم ؛و«الخشية » ،و«الخوف » متقاربان ؛إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن «الخشية » لا تكون إلا عن علم ؛لقوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [ فاطر: 28] بخلاف «الخوف »: فقد يخاف الإنسان من المخوف وهو لا يعلم عن حاله ؛والفرق الثاني: أن «الخشية » تكون لعظم المخشيّ ؛و«الخوف » لضعف الخائفوإن كان المخوف ليس بعظيم ،كما تقول مثلاً: الجبان يخاف من الجبانيخاف أن يكون شجاعاً ؛وعلى كل حال إن صح هذا الفرق فهو ظاهر ؛لكن الفرق الأول واضح ؛وهو أن «الخشية » إنما تكون عن علم .
وأتى بالأمر{واخشوني} بعد النهي ؛لأنه كما يقال: التخلية قبل التحلية ؛أزِلْ الموانع أولاً ،ثم أثبت ؛فأولاً فرِّغ قلبك من كل خشية لغير الله ،ثم مكن خشية الله من قلبك ؛فأنت أزل الشوائب حتى يكون المحل قابلاً ؛فإذا كان المحل قابلاً فحينئذٍ يكون الوارد عليه وارداً على شيء لا ممانعة فيه ؛والأمر هنا للوجوب بلا شك ؛الواجب على المرء أن يخشى الله وحده .
قوله تعالى:{ولأتم نعمتي عليكم} معطوفة على قوله تعالى:{لئلا يكون}؛وإتمام الشيء: بلوغ غايته ؛والغالب أنه يكون في الكمال ؛و «النعمة » هي ما ينعَم به الإنسان ؛ويقال: «نِعمة » بكسر النون ؛ويقال: «نَعمة » بالفتح ؛لكن الغالب في نعمة الخير أن تكون بالكسر ؛و«النَّعمة » بالفتح: التنعم من غير شكر ،كما قال تعالى:{ونعمة كانوا فيها فاكهين} [ الدخان: 27] ،وقال تعالى:{وذرني والمكذبين أولي النَّعمة} [ المزمل: 1ونزلت هذه الآية في أول الهجرة عند تحويل القبلةيعني في السنة الثانيةولا يعارضها قوله تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [ المائدة: 3]؛وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع ؛لأن المراد في آية المائدة:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الإتمام العام في كل الشريعة ؛أما هنا:{ولأتم نعمتي عليكم} [ البقرة: 150]: في هذه الشريعة الخاصةوهي استقبال الكعبة بدلاً عن بيت المقدس ؛لأنه سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ينتظر متى يؤمر بالتوجه إلى الكعبة ؛فلا شك أنه من نعمة الله عزّ وجلّ أن أنعم على المسلمين بأن يتجهوا إلى هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس ،والذيكما قال بعض أهل العلمهو قبلة جميع الأنبياء ،كما ذكره شيخ الإسلامرحمه اللهويحتمل وجهاً آخر في الجمع بين الآيتين: بأن هذه الآية جاءت بصيغة المضارع الدال على الاستمرار ؛وآية المائدة بصيغة الماضي الدال على الانتهاء .
وأضاف الله سبحانه وتعالى النعمة إليه ؛لأنه عزّ وجلّ صاحبها: هو الذي يسديها ،ويولِيها على عباده ؛ولولا نعم الله العظيمة ما بقي الناس طرفة عين ؛وانظر إلى قوله تعالى:{إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم} [ الفاتحة]؛في النعمة قال:{أنعمت عليهم} ؛لأن النعمة من الله وحده ،كما قال تعالى:{وما بكم من نعمة فمن الله} [ النحل: 53]؛وأما الغضب على المخالف في دين الله فيكون من الله ،ومن أولياء الله من الرسل ،وأتباعهم .
وقوله تعالى:{ولعلكم تهتدون}؛«لعل » هنا للتعليل ؛أي: تكتسبون علماً ،وعملاً ؛وهذه هي العلة الثانية ؛العلة الأولى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم}؛والعلة الثانية:{ولأتم نعمتي عليكموالثالثة:{ولعلكم تهتدون}؛وسيأتي بيان أنواع الهداية .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: تكرير الأمر الهام ؛وذلك لتثبيته ،وتَسِرَّ به النفوس ،وبيان أهميته .
2 ومنها: وجوب استقبال الكعبة أينما كان الإنسان ؛قال أهل العلم: من أمكنه مشاهدة الكعبة فالواجب إصابة عينها ؛ومن لم تمكنه كفى استقبال جهتها ؛لقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم}؛وسبق ذكر ما يستثنى من ذلك عند قوله تعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء} [ البقرة: 144] الآية .
3 ومنها: دفع ملامة اللائمين ما أمكن ؛تعالى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة} .
4 ومنها: أن الظالم لا يدفع ملامته شيء ؛بمعنى أنه سيلوم وإن لم يكن محل لوم ؛لقوله تعالى:{إلا الذين ظلموا منهم} .
5 ومنها: أن أهل الباطل يحاجون في الحق لإبطاله ؛ولكن حججهم باطلة .
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يعرف شبه المخالفين التي يدعونها حججاً لِيَنْقَضَّ عليهم منها ،فيبطلها ؛قال الله تعالى:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} [ الأنبياء: 18] .
6 ومن فوائد الآية: وجوب تنفيذ شريعة الله عزّ وجلّ ،وألا يخشى الإنسان لومة لائم .
7 ومنها: وجوب خشية الله تعالى ؛لأنه هو الذي بيده النفع ،والضرر .
8 ومنها: نعمة اللهتبارك وتعالىعلى هذه الأمة ،وفضله ،وإحسانه ؛لقوله تعالى:{ولأتم نعمتي عليكم} .
9 ومنها: إثبات حكمة الله سبحانه وتعالى ؛لقوله تعالى:{ولأتم ...ولعلكم تهتدون} .
10 ومنها: أن تنفيذ أوامر الله ،وخشيته سبب للهداية ؛والهداية نوعان: هداية علمية ؛وهداية عملية ؛ويقال: هداية الإرشاد ؛وهداية التوفيق .
ف«الهداية العلمية » معناها أن الله يفتح على الإنسان من العلم ما يحتاج إليه لأمور دينه ودنياه .
و«الهداية العملية » أن يوفق للعمل بهذا العلم .
الأولى: وسيلة ،والثانية: غاية ؛ولهذا لا خير في علم بدون عمل ؛بل إن العلم بدون عمل يكون وبالاً على صاحبه ؛والهداية هنا شاملة للعلمية ،والعملية ؛ووجه كونها شاملة: أنهم لم يعلموا أن مرضاة الله بالتوجه إلى الكعبة إلا بما علمهم الله ؛ثم إن الله وفقهم للعمل به ؛فلم يمانعوا أبداً ؛بل إن أهل قباء أتاهم الخبر وهم يصلون صلاة الفجر وكانوا متجهين إلى بيت المقدس ،فاستداروا إلى الكعبة ؛فصار الإمام نحو الجنوب ،والمأمومون نحو الشمال ؛هذه هداية عملية عظيمة ؛لأن انتقال الإنسان إلى ما أمره الله به بهذه السهولة مع توقع المعارضات ،والمضايقات يدل على قوة إيمانهم ،وثقتهم بربهم سبحانه وتعالى ؛وهكذا يجب على كل مؤمن إذا جاء أمر الله أن يمتثل الأمر ؛وسيجعل الله له من أمره يسراً ؛لأن تقوى الله فيها تيسير الأمور ؛لقوله تعالى:{ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً} .
11 ومنها: إثبات الحكمة في أفعال الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{ولعلكم تهتدون} .