وقد أكد سبحانه وتعالى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتكراره ، وذكر الأمر للمؤمنين أجمعين تعميما للأماكن ، حيثما كانوا في سفر أو إقامة كما أشرنا ، فقال تعالى:{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} . وكان التكرار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم لتعدد أسفاره ، وغزواته ، وأن القبلة الاتجاه إليها شرط لصحة الصلاة في كل الأحوال إلا أن يكون ذلك في حال الخوف ، وتكون صلاة الخوف ، ولا يمكن الاتجاه إلى القبلة ، إذ يستدبر العدو ، فيأتيهم من حيث لا يشعرون ، وقد بين الله تعالى صلاة الخوف فقال تعالى:{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا 102 فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا 103} [ النساء] .
وقد تشير هذه النصوص الكريمة إلى أن استقبال القبلة إذا تعذر في حال الحرب جاز الاتجاه إلى غيرها من غير استدبار للضرورة والله تعالى هو الواقي .
وإن الله سبحانه وتعالى كرر طلب الاتجاه إلى البيت الحرام حيثما كانوا ، ومن حيث خرجوا في سفرهم وفي مغازيهم ، وكرر ذلك تأكيدا للطلب لكيلا يرتاب مرتاب ، ولكي يكون حجة على الناس ، ولا يكون لهم حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولذا قال تعالى:{ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} ، أي أكدنا الاتجاه إلى البيت من أجل ألا يكون للناس حجة في عدم العلم ، ودليل عليكم في عدم تحويل القبلة إلى الكعبة ، وأن يسيروا على القبلة التي كنتم عليها ، وهي إلى بيت المقدس ، والحجة هي التي يستدل بها المخالف ، وذلك لأن اليهود والمنافقين لجوا في التساؤل والمناقشة وتوهين ذلك التحويل ، فأكد الله تعالى التوجه إلى البيت الحرام ، والحجة التي نفاها الله تعالى هي حجة عدم العلم فأكده .
وقد استثنى الله تعالى من الذين لا تقوم لهم قائمة الذين ظلموا فقال:{ إلا الذين ظلموا} وهذا الاستثناء أهو استثناء منقطع بمعنى لكن ؟ لقد قال الطبري:إنه استثناء متصل بمعنى إن الذين ظلموا لا تنتفي حجتهم ، وإن كانت واهية داحضة عند ربهم ، وقال:المعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا:"ما ولاهم"، وقالوا:تحير محمد في دينه ، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه ، وغير ذلك من الأقوال التي لا تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق ، أي إنه لا حجة عليكم إلا المماراة وما يحسبونه حججا . وهو أقوال واهية تدل على ضعف الإيمان عند قائلها وأنهم يقولون ما لا يؤمنون به ، ويكون الذين ظلموا هم اليهود والمنافقون .
وقال بعضهم:إن الاستثناء منقطع ، ويكون المعنى ، لئلا يكون للناس حجة عليكم ، لكن الذين ظلموا ، لا يقنعهم دليل ولا تعظهم حجة ، بل إنهم يلجون في الباطل بأوهام باطلة ، فلا تنتظر منهم أن يلزموا أنفسهم بدليل مهما كانت قوته ، لأنهم معاندون جاحدون مكابرون .
ولذا قال:{ فلا تخشوهم واخشوني} الخشية نوعان:خشية الله تعالى وهي طمأنينة في القلوب تبعث على التوقي مما يغضب الله تعالى ، وهذه هي الخشية من الله .
والخشية الأخرى الخوف والفزع ، وهي ما نهانا الله تعالى عنه ، فنهى أن نخاف أو أن نفزع أو أن نتوقع الأذى من هؤلاء الظالمين ، وأن نخشى الله تعالى فتمتلئ نفوسنا بالاطمئنان والتقوى .
كان التأكيد للاتجاه إلى البيت الحرام لذلك ، ولأمر جليل آخر ، أشار إليه بقوله تعالى:{ ولأتم نعمتي عليكم} أي كانت القبلة لكيلا يكون للناس حجة عليكم .{ ولأتم نعمتي عليكم} ، إن نعم الله تعالى تتوالى على النبي ومن معه من المؤمنين ومن تمامها نعمة الاتجاه إلى الكعبة ، إذ إنها تضمنت إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كان يقلب وجهه في السماء ليوليه قبلة يرضاها ، ولما فيه من تشريف البيت الحرام ، ولما فيه من إحياء ملة إبراهيم عليه السلام ، ولما فيه من تأليف للعرب ، ولأن ذلك إيذان بفتح مكة وإزالة دولة الأوثان ، وإقامة دعائم الإسلام ، وتلك كبرى النعم .
وذكر الله تعالى أمرا آخر ، وهو جماع الأمور كلها ، وسبيل الحق والإيمان وهو رجاء الهداية الكاملة ، فهذا من طرقها{ ولعلكم تهتدون} الرجاء من الناس لا من الله ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .