الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .
صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لكنها تقصد دون شك مخاطبة عامّة المسلمين ،ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) .
ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامّة:
1إلجام المعارضينتقول الآية: ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) .
قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج ،اليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين ،وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والمشركون يعترضون على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم .هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات .
لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم ،وأن يرفضوا كل منطق ،لذلك تقول الآية: ( إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) .
فهؤلاء لا يستقيمون على طريق ،حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة ،وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات !
هؤلاء المفترون ظالمون حقاً ...ظالمون لأنفسهم ،وظالمون لمن يقطعون عليه طريق الهداية .
2حين وصفت الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون ،فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: ( فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) .
وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاماً أساسياً من أُصول التربية التوحيدية الإِسلامية ،هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله ( أو بعبارة أصح الخوف فقط من معصية الله ) ،وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل ولن تنهزم قط .
أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من «الشرق » تارة ،ومن «الغرب » تارة أخرى ،ومن «المنافقين الداخليين » ومن «الأعداء الخارجيين » ومن كل شيء سوى الله .وهؤلاء دائماً أذلاء ضعفاء مهزومون .
3وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: ( ولأتم نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .
تغيير القبلة كان في الواقع نوعاً من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الإنضباط الإِسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب ،فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمينكما قلناعن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة .وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة ...نحو أقدم بيت توحيدي ،وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي .