تبين في الآيات السابقة اتباع القبلة في حال المقيمين ، فبينت حيث يقيم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبينت حيث يقيم المسلمون في الأماكن الإسلامية ، كل في مكان إقامته ، فقال فيما تلونا من قبل:{ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} .
وفي النص السامي يبين أن القبلة لا بد من الاتجاه إليها في السفر كما يجب الاتجاه إليها في حال الإقامة ، فإذا خرج من مكان إقامته اتجه إليها ، فلا تسقط فرضيتها في السفر ، ولذا قال تعالى:{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} "من"هنا أي من أي مكان خرجت ، وفي أي مكان حللت ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، أي ناحيته ، إذ لا فرق بين مكان ومكان ولا سفر ولا إقامة ، فالاتجاه ضروري ، أي إن السفر لا يسوغ ترك الاتجاه شطر البيت أي ناحيته ووجهته .
وذكر ذلك النص لتأكيد الاتجاه ، وأنه شرط لصحة الصلاة دائم مستمر لا فرق بين سفر وحضر ، ولا فرق بين راكب وراجل ، ولقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال:( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به ){[121]} ، أي أنه كان يلاحظ دائما أن يكون ناحية القبلة .
وقوله تعالى:{ فول وجهك} الفاء هنا في معنى جواب الشرط .
وقد أكد الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام ، فقال:{ وإنه للحق من ربك} والضمير يعود على تولية الوجه ، وقد أثبت الله تعالى بهذا أنه الحق ، وأكده بأن واللام ، والجملة الاسمية ، وإسناد هذا الحق لله تعالى ، والتعبير عن الله جل جلاله للدلالة بربك للإشارة إلى أنه اقتضته تربيته لك ، وقيامه على شئونك ، وأنه سار على حكمته ، ولأنه رأى تقلب وجهك في السماء ، وأن ذلك الحق ثابت في كتبهم ، فإنه ثابت في التوراة أن القبلة تتحول إلى فاران أي إلى مكة .
وبعد أن أكد سبحانه وتعالى وجوب الاتجاه إلى القبلة في السفر والإقامة بين سبحانه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تحت سلطان علمه وحكمته ، وأنه رقيب على المؤمنين ليس بغافل عنهم ليتحروا القبلة ويتعرفوها ، ولا يصلوا إلا بعد هذا التحري فقال تعالت كلماته:{ وما الله بغافل عما تعملون} .
نفى الله تعالى وجل جلاله عن نفسه الغفلة ، أي أثبت العلم الكامل ، بتأكيد نفي أن يقع فعل في الوجود على غير علم منه ، باستغراق النفي ، وبذكر لفظ الجلالة الذي يتصف بكل كمال ، ويستحيل عليه أي نقص ، وبالباء الدالة على استغراق النفي .
وإن هذا الكلام السامي قد يكون إنذارا ، ولكنه موجه إلى المؤمنين ، وليس موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أن الخطاب كان باللفظ الدال على الجمع ،{ عما تعملون} .