{ ) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة:151 )
التفسير:
قوله تعالى:{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم}؛هذه أيضاً منّة رابعة وجهت إلى المؤمنين ؛والثلاث قبلها هي: قوله تعالى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة} [ البقرة: 150] ،وقوله تعالى:{ولأتم نعمتي عليكم} [ البقرة: 150] ،وقوله تعالى:{ولعلكم تهتدون} [ البقرة: 150]؛يعني أن نعمة الله عزّ وجلّ علينا بالتوجه إلى الكعبة بدلاً عن بيت المقدس عظيمة ،كما أن نعمته علينا بالرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة ؛و «الإرسال » بمعنى البعث ؛يعني أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى .
قوله تعالى:{يتلو عليكم آياتنا} يعني: يقرأ عليكم آياتنا ؛فيأتي بها كما سمع .
قوله تعالى:{ويزكيكم} أي ويطهركم ،وينمي أخلاقكم ،ودينكم .
قوله تعالى:{ويعلمكم الكتاب} أي القرآن ؛وكان العرب أُميين لا يقرؤون ،ولا يكتبون إلا النادر منهم .
قوله تعالى:{والحكمة}: هي أسرار الشريعة ،وحسن التصرف بوضع كل شيء في موضعه اللائق به - بعد أن كانوا في الجاهلية يتصرفون تصرفاً أهوج من عبادة الأصنام ،وقتل الأولاد ،والبغي على العباد ...
قوله تعالى:{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي من أمور الدين ،والدنيا ؛وهذه الجملة لتقرير ما سبق من تعليمهم الكتاب ،والحكمة .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: بيان نعمة الله تعالى علينا بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم ؛لقوله تعالى:{كما أرسلنا فيكم رسولاً}؛لأن هذه الآية متعلقة بقوله تعالى:{ولأتم نعمتي عليكم} [ البقرة: 150]؛فإن هذا من تمام النعمة ؛وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليُعبَد بما شرع ؛ولا يمكن أن نعرف أن هذا مما يرضاه الله أن نتعبده به ،وهذا مما لا يرضاه إلا بواسطة الرسل ؛ولو أن الإنسان وكِل إلى عقله في العبادة ما عرف كيف يعبد الله ؛ولو وكِل إلى عقله في العبادة ما اجتمع الناس على عبادة الله: لكان كل واحد يقول: هذا هو الصواب ؛ولو أن الإنسان وكل إلى عقله في العبادة ما كانت أمتنا أمة واحدة ؛فعلى كل حال لا يمكن لنا بمجرد عقولنا أن ندرك كيف نعبد الله ؛ومَثَل يسير يبين ذلك: لو أُمرنا بالتطهر للصلاةولم يبين لنا الكيفيةلتنازع الناس في ذلك ؛وأخذ كلٌّ برأيه ؛فافترقت الأمة ؛فلولا أن الله أبان لنا كيف نعبده ما عرفنا كيف نعبده ،فهذا من نعمة الله علينا من إرسال هذا الرسول محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الذي بين لنا كل شيء ؛ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه: «تركنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم »{[201]} ؛حتى الطيور في السماء علمنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم .
2 ومن فوائد الآية: أن كون الرسول مِنّا يقتضي أن تكون قريش أول من يصدق به ؛لأنهم يعرفونه ،ويعرفون نسبه ،ويعرفون أمانته ؛ولهذا وبخهم الله تعالى على الكفر به ،ووصْفِه بالضلال ،والجنون ،فقال جل وعلا:{ما ضل صاحبكم وما غوى} [ النجم: 2] ،وقال جل وعلا:{وما صاحبكم بمجنون} [ التكوير: 22] .
3 ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أوحي إليه على وجه الكمال ؛لقوله تعالى:{يتلو عليكم آياتنا}؛فإن هذا يدل على أن جميع الآيات التي أوحاها الله إليه قد تلاها ؛ولهذا القرآنوالحمد للهمبين لفظه ،ومعناه ؛ليس فيه شيء يشتبه على الناس إلا اشتباهاً نسبياً بحيث يشتبه على شخص دون الآخر ،أو في حال دون الأخرى ؛قال الله تعالى:{إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} [ القيامة: 1719] .
4 ومنها: أن من فوائد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حصول العلم ؛لأن هذه الآيات كلها علم ؛لقوله تعالى:{يتلو عليكم آياتنا} .
5 ومنها: أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو من آيات الله الدالة على كمال ربوبيته ،وسلطانه ،ورحمته ،وحكمته سواء كان من الآيات الكونية ،أو الشرعية ؛لكن منها ما هو بيِّن ظاهر ؛ومنها ما يخفى على كثير من الناس إلا الراسخين في العلم ؛ومنها ما هو بيْن ذلك .
6 ومنها: أن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم كلها تزكية للأمة ،وتنمية لأخلاقها ،ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة ؛ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة أنها تأتي بالمصالح الخالصة ،أو الراجحة ،وتنهى عن المفاسد الخالصة ،أو الراجحة ؛فالخمر فيه مصالح ،ومفاسد ؛لكن مفاسده راجحة ؛ولهذا حرم ؛الحجر على السفيه فيه مصالح ،وفيه مفاسد ؛لكن مصالحه راجحة ؛فلذلك قدمت المصالح ؛أو مصالح خالصةفليس فيها مفاسد ،كعبادة الله مثلاً ؛هذه قاعدة الشريعة ؛ولهذا قال تعالى:{ويزكيكم} .
7 ومن فوائد الآية: أن كل ما فيه تزكية للنفوس فإن الشريعة قد جاءت به ؛لقوله تعالى:{ويزكيكم
8 ومنها: أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ،ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة .
9 ومنها: الرد على أهل التأويل ،وأهل التجهيل ؛لقوله تعالى:{يعلمكم الكتاب}أهل التأويل الذين يؤولون آيات الصفاتلأنه لو كان هذا التأويل من العلم لعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم ؛فلما لم يعلمنا إياه علمنا أنه ليس من العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وأهل التجهيلوهم طائفة يقولون: «إن الرسول صلى الله عليه وسلم ،وأصحابه ،والأمة كلها لا تعلم معاني آيات الصفات ،وأحاديثها ؛فلا يدرون ما معناها ؛حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحديث من صفات الله ولا يدري معناها » !!!
10 ومن فوائد الآية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة لفظ القرآن ،ومعناه ؛ولهذا إذا استشكل الصحابة شيئاً من المعنى سألوه ،فعلمهم ؛ولكن الغالب أنهم لا يستشكلون ؛لأنه نزل بلغتهم ،وفي عصرهم ،يعرفون معناه ،ومغزاه ،وأسبابه .
11 ومنها: اشتمال الشريعة على الحكمة ؛لقوله تعالى:{ويعلمكم الكتاب والحكمة}؛فالشريعة متضمنة للحكمة تضمناً كاملاً ؛فما من شيء من مأموراتها ،ولا منهياتها ،إلا وهو مشتمل على الحكمة ؛لكن هنا حكمة لازمة لكل حكم ؛وهو طاعة الله ورسوله ؛فإن هذه أعظم حكمة ؛وهي ثابتة فيما نعقل حكمته ،وفيما لا نعقلها ؛ولهذا لما قالت المرأة لعائشة رضي الله عنها: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة »{[202]} ؛فبينت الحكمة من ذلك ؛وهو طاعة الله ،ورسوله ؛وهذه حكمة لازمة في كل حكم سواء عقل معناه ،أو لم يُعقَل .
12 ومن فوائد الآية: أن الأصل في الإنسان الجهل ؛لقوله تعالى:{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}؛وهو مما يدل على نقص الإنسان ،حيث كان الأصل فيه الجهل ؛قال تعالى:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [ النحل: 78]؛ثم قال عزّ وجلّ:{وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [ النحل: 78]؛فبين طرق العلم:{السمع والبصر} ؛وبهما الإدراك ؛و{الأفئدة}؛وبها الوعي ،والحفظ .
13 ومنها: فضل الله عزّ وجلّ ،حيث علمنا ما لم نكن نعلم ؛لقوله تعالى:{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}؛وهذا عام في كل ما نحتاج إلى العلم به من أمور الدنيا ،والآخرة .
إذا قال قائل: «اضربوا لنا مثلاً » فماذا نقول ؟
فالجواب: أن كل الشريعة مثال ؛فإننا لا نعرف كيف نصلي إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ولا كيف نتوضأ ،ولا مقدار الواجب في الأموال من الزكاة ،ولا مَن تُصرف إليهم الزكاة ،ولا غير ذلك من أمور الشريعة إلا بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وهناك أحكام قدرية لا نعرفها أيضاً علمنا الله سبحانه وتعالى إياها ،كابتداء الكون ،ونهايته: كخلق السموات ،والأرض ؛واليوم الآخر ؛إذاً فعلومنا الشرعية ،والقدرية متلقاة من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛وليس لنا علم بها قبل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم .