)فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) ( البقرة:152 )
التفسير:
قوله تعالى:{فاذكروني أذكركم}؛«اذكروني » فعل أمر ؛فيه نون الوقاية ؛والياء مفعول به ؛والواو فاعل ؛وجواب فعل الأمر:{أذكركم} .
فقوله تعالى:{فاذكروني أذكركم} عمل ،وجزاء ؛العمل: ما أفاده قوله تعالى:{اذكروني}؛والجزاء: ما أفاده قوله تعالى:{أذكركم}؛وذِكر الله يكون بالقلب ،واللسان ،والجوارح .
وقوله تعالى:{فاذكروني} فيها قراءة بفتح الياء ؛وقراءة بإسكانها ؛لأن ياء المتكلم من حيث اللغة العربية يجوز إسكانها ،وفتحها ،وحذفها تخفيفاً ؛لكنها في القرآن تتوقف على السماع .
قوله تعالى:{واشكروا لي}؛{اشكروا} فعل أمر من «شكر » ؛أي قوموا بالشكر ؛واللام للاختصاص ؛و «الشكر » هو القيام بطاعة المنعم ؛وقد اختلف علماء العربية هل:{واشكروا لي} بمعنى «اشكروني » ؛أي أن الفعل يتعدى بنفسه تارة ،وباللام أخرى ؛أو أن بينهما فرقاً ؟فقال بعضهم: هي بمعناها ،فيقال: شكره ؛ويقال: شكر له ؛وقال بعضهم: إنها ليست بمعناها ؛وأن «شكر » تتعدى بنفسها دائماً ،وأن المفعول هنا في نحو{واشكروا لي} محذوف ؛يعني: اشكروا لي ما أنعمت عليكم ،أو نعمتي ،أو ما أشبه ذلك ؛والخلاف في هذا قريب ؛لأن الجميع متفقون على أن المراد شكر الله عزّ وجلّ على نعمته .
قوله تعالى:{ولا تكفرون}؛{لا} ناهية ؛والنون هنا نون الوقاية ،وليست نون الإعراب ؛ومثله قوله تعالى:{فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} [ الذاريات: 59]؛ولهذا كانت مكسورة فيهما ؛و{لا تكفرون} أي لا تجحدوني ،أو تجحدوا نعمتي ؛بل قوموا بشكرها ،وإعلانها ،وإظهارها .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: وجوب ذكر الله ؛للأمر به ؛مطلق الذكر واجب: يجب على كل إنسان أن يذكر ربه ؛بل كل مجلس يجلسه الإنسان ولا يذكر الله فيه ،ولا يصلي على النبي إلا كان عليه ترةأي خسارة ،وحسرة يوم القيامة ؛فالعبد مأمور بذكر الله ؛لكن ذكر الله ينقسم إلى فريضة من فرائض الإسلام ؛وإلى واجب من واجباته ؛وإلى سنة من سننهبحسب ما تقتضيه الأدلة ؛إنما مطلق الذكر حكمه أن واجب .
2 ومنها: أن مَنْ ذَكر الله ذكره الله ؛لقوله تعالى:{أذكركم}؛وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره ؛ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ؛ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه »{[203]} ؛وذكر الله يكون بالقلب ،وباللسان ،وبالجوارح ؛فالأصل ذكر القلب كما قال ( ص ): «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ؛وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ألا وهي القلب »{[204]} فالمدار على ذكر القلب ؛لقوله تعالى:{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} [ الكهف: 28 ؛وذكر الله باللسان ،أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جداً ،كجسد بلا روح ؛وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله ،ومحبته ،وتعظيمه ،والإنابة إليه ،والخوف منه ،والتوكل عليه ،وما إلى ذلك من أعمال القلوب ؛وأما ذكر الله باللسان فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله ؛وأعلاه قول: «لا إله إلا الله » ؛وأما ذكر الله بالجوارح فبكل فعل يقرب إلى الله: القيام في الصلاة ،والركوع ،والسجود ،والجهاد ،والزكاة ،كلها ذكر لله ؛لأنك عندما تفعلها تكون طائعاً لله ؛وحينئذٍ تكون ذاكراً لله بهذا الفعل ؛ولهذا قال الله تعالى:{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [ العنكبوت: 45]؛قال بعض العلماء: أي لما تضمنته من ذكر الله أكبر ؛وهذا أحد القولين في هذه الآية .
3 ومن فوائد الآية: فضيلة الذكر ؛لأن به يحصل ذكر الله للعبد ؛وذكر الله للعبد أمر له شأن كبير عظيم ؛فليس الشأن بأن تذكر الله ،أو أن تحب الله ؛ولكن الشأن أن يذكرك الله عزّ وجلّ ،وأن يحبك الله عزّ وجلّ ؛ولهذا قال الله تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [ آل عمران: 31]؛فقال تعالى:{يحببكم الله} لأن هذا هو الغاية المطلوبة .
4 ومنها: وجوب الشكر ؛لقوله تعالى:{واشكروا لي}؛و«الشكر » يكون بالقلب ،وباللسان ،وبالجوارح ؛ولا يكون إلا في مقابلة نعمة ؛فسببه أخص من سبب «الحمد » ؛ومتعلَّقه أعم من متعلق «الحمد » ؛فيختلفان إذاً من حيث السبب ؛ويختلفان من حيث المتعلق ؛سبب «الحمد » كمال المحمود ،وإنعام المحمود ؛فإذا كان سببه إنعام المحمود كان «الحمد » من «الشكر » ؛أما «الشكر » فسببه واحد ؛وهو نعمة المشكور ؛وأما متعلق «الحمد » فيكون باللسان فقط ؛وأما متعلق «الشكر » فثلاثة: يكون باللسان ،والقلب ،والجوارح ؛وعليه قول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا ف«يدي » هذا الشكر بالجوارح ؛و«لساني » هذا الشكر باللسانيعني القول ؛و«الضمير المحجبا » يعني القلب .
والشكر بالقلب أن يعتقد الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عزّ وجلّ وحده ؛فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام ؛ولهذا ورد في الحديث: «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه »{[205]} ؛فإن الإنسان إذا شعر بأن هذه النعمة من الله أحب الله سبحانه وتعالى ؛لأن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها .
وأما الشكر باللسان فأن يتحدث الإنسان بنعمه لا افتخاراً ؛بل شكراً ؛قال الله تعالى:{وأما بنعمة ربك فحدث} [ الضحى: 11]؛وقال رسول الله ( ص ): «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر »{[206]} .
وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم الإنسان بطاعة الله ،ويصرف هذه النعمة لما جعلت له ؛فإن هذا من شكر النعمة .
5 ومن فوائد الآية: وجوب ملاحظة الإخلاص ؛لقوله تعالى:{واشكروا لي} يعني مخلصين لله عزّ وجلّ ؛لأن الشكر طاعة ؛والطاعة لا بد فيها من الإخلاص ،كما قال تعالى:{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [ الكهف: 110] .
6 ومنها: تحريم كفر النعمة ؛لقوله تعالى:{ولا تكفرون} ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه ؛فإذا أنعم الله عليه بعلم فإن الله يحب من هذا العالم أن يظهر أثر هذه النعمة عليه:
أولاً: على سلوكه هو بنفسه بحيث يكون معروفاً بعلمه ،وعمله به .
ثانياً: بنشر علمه ما استطاع ،سواء كان ذلك على وجه العموم ،أو الخصوص .
ثالثاً: أن يدعو إلى الله على بصيرة بحيث إنه في كل مجال يمكنه أن يتكلم في الدعوة إلى الله بقدر ما يستطيع حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى وليمة مثلاً ،ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم ؛وبعض أهل العلم يكون معه كتاب ،فيقرأ الكتاب على الحاضرين ،فيستفيد ،ويفيد ؛وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عوَّدهم على هذا ،فصاروا يرقبونه منه ؛أما إذا لم يعوِّدهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا ،ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يوردهسؤالاً مثلاًحتى ينفتح المجال للناس ،ويسألون ،وينتفعون ؛لأن بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها ؛وهذا لا شك أنه حرمانوإن كانوا لا يأثمون إذا لم يأتوا بما يوجب الإثم ؛فالذي ينبغي لطالب العلمحتى وإن لم يُسألأن يورد هو سؤالاً لأجل أن يفتح الباب للحاضرين ،فيسألوا ؛وقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام ،والإيمان ،والإحسان ،والساعة ،وأماراتها ؛وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم »{[207]} ؛مع أن الذي يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ولكن جعله معلماً وهو يسأل ؛لأنه هو السبب في هذا التعليم .