بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب ، وفي الإنسانية كلها ، وإن ذلك يقتضي أن يشكر صاحب هذه النعم{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . . 34} [ إبراهيم] ، ولذلك قال تعالى:{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} ، الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية ، وهي ما يكون قبلها سببا لما بعدها ، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة ، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط ، ولا بترطيب القول بذكر جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره ، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت ، كما قال تعالى:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية . . . 55} [ الأعراف] و{ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين 205} [ الأعراف] وإن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم ، اذكروني في كل حياتكم وفي قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران ، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة{ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد 7} [ إبراهيم] روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة:( أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا ، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيت إليه هرولة ) وقد أخرجه البخاري{[122]} . وإن ذكر الله تعالى يكون في القلب ، ويبدو في العمل ، فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله .
وكل الأعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها ، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله ، وكل عمل لا يعمل إلا لحب الله تعالى ، فالصانع في مصنعه ، والزارع في مزرعته ، والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع الناس يكون ذاكرا لله تعالى ، وإن المؤمن لا يفرغ قلبه من ذكره ، إذا قام بحق الله تعالى ، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى ، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين:{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون 2} [ الأنفال] .
إن ذكر الله تعالى هو الخير كله ، روى ابن ماجة أن أعرابيا قال:يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال:( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل ){[123]} .
وإن أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى ، ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر:{ واشكروا لي ولا تكفرون} وهنا نجد الشكر تعدى باللام وقد قال الفراء:إن ذلك هو الأفصح ، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني .
وشكر العبد لله تعالى ، الثناء عليه ، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة ، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه ، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق ، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل ، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدي على حق غيره ، وألا يؤذي ، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم ، ويغيث المستغيث ، ويدفع الكوارث عن المؤمنين ، وأن يفك العاني . . وشكر نعمة الرجل ألا يسعى إلا في خير ، وألا يسعى في ظلم ، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم .
وإن شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها ، ولقد قال تعالى:{ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد 7} [ إبراهيم] .
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر ، وهو الطاعات ، والأخذ بالهدى المحمدي ، فقد نهى عن الكفر فقال:{ ولا تكفرون} والنهي عن الكفر معطوف على قوله تعالى:{ واشكروا لي} يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما في قوله تعالى ( فلا تخشوا الناس واخشون . . . 44 ) ( المائدة ) ويكون معنى كفر الله تعالىعدم ذكره ، وعدم معرفة حقيقة نعمه ، ولكن الظاهر أن المراد النهي عن الكفر المطلق ، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها ، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى . وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر .