أول الجهاد جهاد النفس
اتجه المسلمون بأمر الله تعالى إلى البيت الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا ، وقد اتجهوا إليه في الصلاة إيذانا بإبعاده عن الشرك ، وأن تحيط به الأوثان ، وأنه أشار سبحانه وتعالى بأنه سيكون الفتح ، وأنه سيكون في حوزة أهل التوحيد ، وأنه من بعد سيكون يأس الشيطان من أن يعبد في الأرض المباركة ، وقد كان البيت الحرام في أيدي المشركين ولا يخرجون منه إلا بجهاد لإخراج أعداء الله من بيت الله ، أو لجعل كلمة الله تعالى العليا في بيته ، وإنه بالتحقيق ثبت بالتقريب أن تحويل القبلة كان في السابع عشر من رمضان ، فكان بين التحويل ويوم الفرقان شهر واحد .
ولذلك جاءت الدعوة إلى الجهاد ، عقب تحويل القبلة ، وأول الجهاد جهاد النفس ، فجهاد النفس قبل امتشاق الحسام في الميدان ، وجهاد النفس بتعويدها الصبر وقمع الأهواء والشهوات والاتجاه إلى الله تعالى ، ولذا ابتدأ به فقال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} استعينوا في أموركم ، وفي استجابة أوامر ربكم والأخذ بأحكام دينكم وإعداد العدة للقاء عدوكم ، فمجاهدة النفس مقدمة على جهاد العدو ، بل هي عدته وقوته .
والصبر ضبط النفس والاستيلاء عليها ، وهو يتنوع موضوعه ، فهناك صبر على منازعة الأهواء والشهوات لتعميمها والاستيلاء عليها بجعل الشهوة أمة للعقل ليست مسيطرة عليه ، ولا مسيرة للنفس ، وهناك صبر لأداء الطاعات والقيام بالواجبات فإن ذلك يحتاج إلى عزم قوي لا يكل ولا يمل ، وهناك صبر على لغو القول من الناس ، واستهزاء السفهاء ، وتهكم ذوي الأهواء ، وهناك صبر بالإقامة مع الضعفاء وقد قال الله تعالى فيه:{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . . . 28} [ الكهف] .
وهناك صبر عند المصائب في الدنيا فلا يفزع ولا يجزع ويعلم أن الصبر فيه أجر وأن الجزع فيه وزر ، وهناك صبر عند لقاء الأعداء ولعله نتيجة لصفة الصبر وتشعبها في كل النواحي التي ذكرناها .
والصبر خير كله ، وهو أول صفات المؤمنين ، ومن الصبر ألا يكفر عند النعمة وألا ييئس عند النقمة ، ولقد قال تعالى:{ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور 9 ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور 10 إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير 11} [ هود] .
ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن صهيب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ){[124]} فالصبر كله خير ، وهو عدة الإيمان والأخلاق ، وبناء المجتمع الصالح ، وهو أقوى عدة للجهاد . هذا أمر الصبر . والاستعانة به مناجاة العبد لربه ، وصرف القلب إليه ، والاتجاه إليه ، وهي التي تملأ القلب بذكر الله تعالى فينسى ما بينه وبين الناس ، وهي استحضار العزة من الله ، وامتلاء الإنسان بجبروت الله ، وأنه فوق قوى البشر ، والاستعانة هي سلوك المؤمن . روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى"{[125]} .
ولقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر والصلاة إذا اشتدت عليه شديدة الناس بالقول والعمل ، فقال تعالت كلماته:{ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى 130} [ طه] فعبر عن الصلاة هنا بالتسبيح فسبيل الرضا بالنوازل والشدائد من الناس –كما تدل الآية- الصبر على ما يقولون ، والصلاة إذ هي اطمئنان القلوب ، وسرور النفوس وبها تستبدل النعمة بالنقمة ، والسراء بالضراء .
وختم تعالى الآية بقوله:{ إن الله مع الصابرين} بمعاونته لهم ، فينصرهم ، بسيطرتهم على نفوسهم ، ثم ينصرهم على أعدائهم ، ثم يغلبهم ، على كل شر في الحياة ، ثم تقوية عزمهم ، وضبطهم لنفوسهم ، فالله معهم في كل أعمالهم ، وهو وليهم ونعم المولى ونعم النصير .