الثبات أمام التحدّيات:
ربما يوحي جوّ هذه الآيات وأسلوبها ،بالتفاتة قرآنية توجّه الإنسان المسلم إلى استثارة إيمانه الكامن في أعماقه في حركة معاناة عميقة تتصل بالواقع الذي يضج بالتحدّيات والمشاكل والمآسي المتنوّعة التي تقتحم حياته فتهزها في دائرة القلق والاهتزاز ،فيقف أمام ذلك كلّه وقفة إيمان واعٍ يعرف قصة الحياة على أساس السنن التي أودعها اللّه فيها ،فليست هي عُسراً كلّها وليست يُسراً كلّها ،بل هي العُسر في طريق اليُسر ،واليُسر في نهايات العُسر ونتائجه .فإذا واجه الإنسان بعضاً من العُسر في طريقه إلى اللّه ،أو ثقلت عليه الأعباء في دروب الأهداف ،فلا بُدَّ له من الاستعانة بالصبر ليدعم إرادته ويقوّيها ويبعث فيها روح التماسك والصلابة من أجل الحصول على الموقف الصلب والشخصية المتماسكة ،ولا بُدَّ لهفي نطاق ذلكمن الاستعانة بالصلاة ،لأنها تفتح للقلب النوافذ الواسعة المضيئة على اللّه القادر الحكيم الرحيم ،الذي تنطلق حكمته لتخطّط للإنسان حياته على أساس من المصلحة والحكمة ،وتتحرّك رحمته لترفرف على روحه بالرضى واللطف والحنان ،فلا يثقله البلاء بالمستوى الذي لا يستطيع احتماله ،بل يظلّ الإنسان معه في جوّ رحيب يستريح فيه إلى التجربة ويعيش آفاق الأمل ،وتحتضن قدرته الحياة بكلّ ما فيها من طاقات وقوى لتذلل كلّ صعب ،وتقهر كلّ قدرة ،فيخرج الإنسان من ذلك كلّه إلى الأجواء الرحبة التي لا تضيق معها الروح بالمشاكل ،ولا تنهزم أمام التحدّيات ،ولا تضعف أمام العقبات ،بل تظلّ في أمل حيٍّ متفجر بالتفاؤل ،يملأ الإرادة بالحياة ،والحركة بالقوّة والإيمان .
وبذلك تتحوّل القيم الروحية ،كالصبر ،والأعمال العبادية ،كالصلاة ،إلى قوى فاعلة يستعين بها الإنسان على تقوية نقاط ضعفه ،تماماً كما يستعين بالقوى الخارجية عندما تهجم عليه قوى الأعداء ،بدلاً من أن تكون عناصر ضعف وتخدير ،كما يحاول البعض من النّاس أن يفسّرها ،أو عناصر تجميد وتأخّر ،كما يحلو للبعض أن يعالجها ،باعتبار أنَّ الصبر يمنع الإنسان من الحركة ويجمّده في نطاق الإذعان للأمر الواقع ،وأنَّ الصلاة تغرق الإنسان في غيبوبة صوفية حالمة يدخل معها الإنسان في غياهب الغيب ،فينسى دوره ومسؤوليته في حركة الواقع ،فتتخدر أحاسيسه وتضعف تطلّعاته المندفعة نحو الحياة .
إننا نستوحي ذلك كلّه من إثارة الخطاب في جوّ صفة الإيمان ،للإيحاء بأنَّ المضمون الحيّ العميق للإيمان يحمل للإنسان كلّ عوامل الوعي والامتداد ،ومن الدعوة إلى الاستعانة بالصبر والصلاة لتأكيد الطبيعة المتحرّكة للقيم الخُلُقية وللتعاليم الإلهية العملية في صنع القوّة لحياة الإنسان ،فإنَّ الكثيرين من النّاس قد يغفلون عن الطاقات الروحية الكامنة في القيم التي يؤمنون بها وفي الأعمال التي يمارسونها ،فيستسلمون إلى حالات الضعف في الوقت الذي تضج فيه الحياة من حولهم بالقوّة ،لو أرادوا أن يستثيروها بذكاء ...
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْر] الذي هو من عزم الأمور من خلال ما يؤكده في الذات من القوّة في الموقف والموقع أمام التحدّيات والزلازل ،انطلاقاً من التحمّل القاسي الذي يفرضه الإنسان على نفسه أمام كلّ حالات الحرمان الروحي والجسدي ،لذلك كانت له الأهمية الكبرى في القرآن حتى تكرر فيه إلى ما يقارب السبعين موضعاً ،وقد أطلق اللّه ثوابه ،فلم يجعل له حدّاً معيناً فقال: [ قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّه وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] [ الزمر:10] .
والاستعانة به ،هي اللجوء إلى القوّة الأخلاقية الكامنة في أعماق الذات من أجل استنفارها للسيطرة على كلّ المشاعر السلبية التي يمكن أن تثير الاهتزاز في الموقف أو الموقع ،للحصول على الأرض الصلبة في ساحات الصراع ،حيث الأهوال الشديدة والمعارك الحاسمة .
[ وَالصَّلاةِ] التي هي معراج روح المؤمن إلى اللّه ،فهي التي تفتح قلبه على ربّه وتشدّه إليه وتربطه به ،حتى يحسّ أنَّ اللّه معه في كلّ مواقفه ،فلا يخاف ،ولا يحزن ،ولا يضعف ،ولا يتزلزل ،ولا يعيش الاهتزاز النفسي ،والقلق الروحي في وجدانه الإنساني ،وهكذا يعطي الصبر للصلاة قوّة الإرادة ،وتعطيه الصلاة قوّة الروح ،فيتكاملان في حماية إنسانية الإنسان من السقوط ،في آفاق الصبر الممزوج بالصلاة في حركة عروج الإرادة إلى اللّه لتلتقي به في الثبات على رسالته .
وقد ختم اللّه الآية بقوله: [ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ] ليؤكد لهم أنَّ اللّه لا يترك الصابرين وحدهم في مواجهة التحدّيات والأهوال والعقبات ،بل يقف معهم ليمنحهم من روحه الروح الطيبة ،ومن قوّته القوّة الكبيرة ،ومن رحمته اللطف والرضوان والحبّ والسَّلام .
[ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ] الذين يحرّكون الإيمان في عقولهم في خطّ الوعي والإرادة ،وفي كيانهم في خطّ القوّة ،والثبات في أقدامهم في خطّ التوازن .وروي أنَّ علياً ( ع ) كان إذا هاله أمر ،قام إلى الصلاة ثُمَّ تلا هذه الآية: [ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِين] .