] فَاذْكُرُونِي[ في كلّ ما يفتح عقولكم وقلوبكم على معنى الألوهية والربوبية في ذات اللّه ،ليدفعكم ذلك إلى الوعي العميق للحضور الشامل للّه في كلّ حياتكم العقلية في معنى الفكر ،وفي حياتكم العملية في خطّ الواقع ،لتذكروا كلّ صفاته العليا ،وأسمائه الحسنى ،ونعمه الوافرة ،وآياته الكثيرة ،ولتتحرّكوا في اتجاهه في كلّ موقع وموقف ،فهو الذكر الذي يخرجكم من الغفلة ويفتح لكم أبواب المعرفة ،لتعيشوا معه في عالم الشهود من خلال الوعي الروحي المنطلق من عالم الغيب ،وهو الذكر الذي يجعل الإنسان قريباً إلى اللّه بروحه وجسده ،ليكون اللّه معه في كلّ حال وليراه مع كلّ شيء وخلف كلّ شيء .
] أَذْكُرْكُمْ[ بالرحمة والنعمة والمغفرة والرضوان ،ما يجعلكم تحت رعايتي بشكل مباشرٍ أو غير مباشر ،] وَاشْكُرُواْ لِي[ نعمتي التي أنعمت عليكم بالكلمة والفعل والموقف ،ليكون الشكر باللسان في الكلمة المعبّرة ،وبالفعل في الطاعة للّه وامتثال أوامره ونواهيه ،وبالموقف في موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وإعزاز الحقّ وإذلال الباطل ،وفي غير ذلك مما يكون موقعاً لرضوان اللّه .
] وَلاَ تَكْفُرُونِ[ ولا تجحدوا النعمة بأساليب التمرّد والطغيان والمعصية ،فإنَّ ذلك يعرّضكم للغضب الإلهي والعذاب الشديد ،بينما يؤهِّلكم الشكر للزيادة في أعماركم وأرزاقكم وكلّ أوضاعكم المتصلة بكلّ شؤونكم في الحياة .
الذكر والشكر بين الكلمة والموقف:
وقد جاء كثير من الأحاديث المأثورةإلى جانب المدلول الحيّ للآية في الموقف القوي أمام الكافرين والمنافقين من خلال الموقف الخاضع للّهلتخرج الذكر للّه والشكر له من مدلوله اللفظي إلى موقف عملي يتمثّل فيه ذكره بالانضباط العملي في حالات الاهتزاز النفسي التي يتعرّض فيها الإنسان لضغوط الانحراف الروحية والعملية ،فيكون الشعور العميق بحضور اللّه في نفسه ،من خلال الإحساس بحضوره المهيمن على الكون كلّه ،دافعاً للإنسان إلى الالتزام بأوامره ونواهيه ،ومانعاً له عن الانسياق وراء تيارات الضلال والانحراف ؛وهذا ما عبّر عنه الحديث المرويفي عدّة الداعيعن رسول اللّه ( ص ) أنه خرج على أصحابه ،فقال: «ارتعوا في رياض الجنّة ،قالوا: يا رسول اللّه وما رياض الجنّة ؟قال: مجالس الذكر ،اغدوا وروحوا واذكروا ،ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند اللّه ،فلينظر كيف منزلة اللّه عنده ،فإنَّ اللّه تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبد اللّه من نفسه ،واعلموا أنَّ خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ،وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه تعالى ،فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني ،وقال سبحانه:] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ[ [ البقرة:152] ،يعني اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والرحمة والرضوان » ..
وعن الحسن البزّاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه ( ع ): ألا أخبرك بأشدّ ما فرض اللّه على خلقه ( ثلاث ) ؟قلت: بلى ،قال: إنصاف النّاس من نفسك ،ومواساتك أخاك ،وذكر اللّه في كلّ موطن ،أمّا إني لا أقول: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاَّ اللّه واللّه أكبر ،وإن كان هذا من ذاك ،ولكن ذكر اللّه في كلّ موطن إذا هجمت على طاعة أو على معصية » ...وليس معنى التأكيد للجانب العملي للذكر ،هو التهوين من الجانب الآخر الذي يتمثّل في الذكر باللسان في كلمات التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار ،بل قد يكون هذا مقدِّمة لذاك ،لأنَّ الاستمرار في ذكر آلاء اللّه ونعمائه وعظمته يخلق لدى الإنسان حالةً رائعة منفتحةً على اللّه حتى ليحسّ به في كلّ شؤون حياته ،ما يؤدي به إلى الإحساس بضرورة طاعته في كلّ شيء ...
وفي ضوء ذلك كلّه ،نفهم أنَّ المقابلة بين ذكر اللّه لعبده وبين ذكر العبد للّه تعطينا الفكرة الإسلامية التي توحي للعبد بأنَّ استحقاقه لرعاية اللّه له بنعمه وألطافه ،مشروط بانضباطه العملي أمام أوامره ونواهيه كما هي الحال في ميثاق اللّه لعباده ،وعهد العباد أمام ربهم في قوله تعالى:] يَا بَنِي إِسْرَائيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ[ [ البقرة:40] .
وإننا نشعر في هذا التأكيد على ذكر اللّه في الكلمة والموقف ،بأنَّ حركة الإيمان في داخل نفس المؤمن وحياته ،تحتاج إلى الارتباط العميق باللّه ،ليكون للإيمان أصالته في نفسه ،فتتركز القاعدة على أساسه ،وتنطلق الأعماق من خلاله بعفوية وبساطةٍ ووعي .
ذكر اللّه وشكره في أساليب التربية الإسلامية:
وقد نحتاج ،في سبيل الوصول إلى هذا الهدف ،إلى إفساح المجال للأساليب التربوية التي تريد صنع الشخصية الإسلامية لدى الأطفال والشباب والشيوخ ،لنؤكد ذكر اللّه من خلال الكلمة في إطارٍ من الوعي لمعانيها ،وذكره من خلال الموقف في تدريب الإنسان المسلم على أن يمارس التجارب اليومية لأوضاع حياته في هذا الجوّ المنفتح على ذكر اللّه ،وذلك بإعطاء الدروس الفكرية والعملية من خلال موجهين واعين يعرفون كيف يحرّكون الكلمة في اتجاه الموقف ،ويدفعون الموقف نحو الإحساس باللّه ...
أمّا الشكر ،فهو الدعوة الثانية التي يختم بها اللّه هذه الآيات ،ليوجّه النّاس إلى أن يشكروه ولا يكفروا به ،وليست الدعوة لكلمة الشكر ،بل هي دعوة إلى موقف الشكر ؛وذلك بأن يقوم بالطاعة ويجتنب المعصية ،ويعبد اللّه كما ينبغي له ،وهذا هو ما نستوحيه من الحديث المأثور عن رسول اللّه ( ص ) في ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر ( ع ) قال: «كان رسول اللّه ( ص ) عند عائشة ليلتها ،فقالت: يا رسول اللّه لِمَ تتعب نفسك وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً ؟قال: وكان رسول اللّه ( ص ) يقوم على أطراف أصابع رجليه ،فأنزل اللّه سبحانه:] طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى[» [ طه:12] .
وقد رُوي عن أبي عبد اللّه ( ع ) قال: «شكر النعمة اجتناب المحارم ،وتمام الشكر قول الرّجل: الحمد للّه ربّ العالمين » ،ورُوي عنه ،في ما رواه أبو بصير ،قال: قلت لأبي عبد اللّه ( ع ): «هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً ؟قال: نعم ،قلت: ما هو ؟قال: يحمد اللّه على كلّ نعمة عليه في أهل ومال ،وإن كان في ما أنعم اللّه عليه في ماله حقٌّ أدّاه » ...وهكذا يلتقي الشكر في الكلمة بالشكر في الممارسة ،ليتأكد الأسلوب الإسلامي التربوي الذي لا يحوّل العلاقة باللّه إلى كلماتٍ تقليدية ربما ينتهي الأمر فيها إلى الجمود ،بل يبعث فيها الروح الذي يجعل منها تجسيداً حياً للمبادىء الروحية في خطوات الإنسان العملية في كلماته وأفعاله .
وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أنَّ شكر اللّه يمتد حتى يتمثّل في شكر الإنسان للنّاس على ما قدّموه له من خدمات في حياته الخاصة والعامة ،حتى أنَّ الإنسان الذي لا يشكر النّاس لا يشكر اللّه ،فقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين ( ع ) أنه قال: «إن اللّه يحبّ كلّ قلب حزين ،ويحبّ كلّ عبد شكور ،يقول اللّه تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً ؟فيقول: بل شكرتك يا ربّ ،فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره ،ثُمَّ قال: أشْكَرُكُمْ للّه أشْكَرُكُم للنّاس » .
ولعلّ من المعروف لدينا أنَّ هذا الاتجاه التربوي في اعتبار شكر الإنسان على عمله شكراً للّه ،يتحرّك في الخطّ الإسلامي الذي يدعو النّاس إلى تشجيع المحسنين على إحسانهم ،لأنَّ من طبيعة الإنسان العامل في الخير أنه يحبّ أن يجد صدى عمله في مواقف الآخرين منه ،وإن لم يكن ذلك عن عقدة ذاتية ،فإذا لم يحصلوا على ذلك ،بل وجدوا إهمالاً وجحوداً ،كان هذا موجباً لتثبيطهم عن السير بعيداً في هذا الاتجاه ،وقد ورد في وصية الإمام عليّ ( ع ) لمالك الأشتر ( رض ): «ولا يكونَنَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء ،فإنَّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان » ...
ولا يتنافى ذلك مع الروح الإسلامية التي تدعو الإنسان إلى أن يعتبر اللّه هو السبب الأعمق في الأشياء ،فلا يملك العبد من أمره إلاَّ ما ملّكه ،لأن اللّه يريدفي الوقت نفسهأن لا يغفل الإنسان دور الواسطة التي جعلها اللّه أداة لإيصال نعمه إليه ،ولهذا أمر الإنسان بأن يشكر والديه كما يشكر ربّه في قوله تعالى:] وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[ [ لقمان:14] ..
وقد يكون من أسباب التركيز على هذا الجانب ،أنَّ الإنسان عادةً يحسّ بتأثير الأشياء المحسوسة لديه أو القريبة من إحساسه ،فإذا لم يتأثر أو ينفعل بالخدمات المباشرة المحسوسة لديه ممن يعيش معهم ،فإنَّ ذلك يكشف عن فقدان حسّ الشكر لديه ،الأمر الذي يؤدي إلى أن يفقد روح الشكر للّه سبحانه في نهاية المطاف .
الإيحاءات والدروس:
وفي ختام هذا الفصل ،نقف عدّة وقفات لنتأمّل الأفكار الأساسية فيه في عدّة نقاط:
1إنَّ أعداء اللّه في بداية الدعوة كانوا يحاولون إثارة كلّ نقاط الضعف لدى المسلمين من أجل أن يدفعوهم نحو الانحراف عن الإسلام ...
2إنَّ الإسلامفي القرآن الكريمقد واجه القضية المثارة أمام التشريع الجديد مواجهة حاسمة في ما حشده من الأساليب المتنوّعة التي تكشف الخلفيات الذاتية والفكرية المنحرفة الكامنة وراء ذلك كلّه .
3إنَّ الفصل بأكمله وحدة متكاملة ،نجد فيها القرآن يتحرّك في اتجاه تشويه صورة أعداء اللّه من جهة وتحليل طبيعة التشريع من جهة ،ثُمَّ يدفع بالأمّة إلى الواجهة ليوحي لها بموقعها من بقية الأمم ،ومنهم اليهود الذين يستدعي منهم التحرّك من موقع الفعل لا الانفعال ...وتتحرّك من جديد لتفلسف التشريع ولتربطه بالجانب التربوي للأمّة وبالتطلّعات الروحية للنبيّ محمَّد ( ص ) ،وتتنوّع الأساليب التي تكشف للنبيّ الصورة الحقيقية للموقف اليهودي بالمستوى الذي لا يبقى معه مجال للتجربة ...ويظل الفصل مشدوداً للتشريع في عملية إصرار وتأكيد ،ليظل المسلمون معه بعيداً عن كلّ اهتزاز وارتباك .
4إنَّ المسيرة الإسلامية المعاصرة تلتقي بكثير من الأساليب المماثلة التي يثيرها خصوم الإسلام وأعداؤه ضدّ التشريعات الإسلامية في بعض الحالات وضدّ الأساليب العملية المتنوّعة المتغيرة للعاملين في سبيل اللّه ،حسب حاجة العمل إلى التغيير والتبديل ،مما يشابه كثيراً الأجواء التي كان يثيرها اليهود أمام النبيّ ( ص ) .
5إنَّ علينا التوفر على دراسة هذا الفصل كنموذج للأساليب الإسلامية العملية في مواجهة حالات التشكيك والتضليل والإثارة ،واعتباره أسلوباً رائداً في هذا المجال من خلال التأكيد على ملاحظة الطبيعة المشابهة للظروف الموضوعية هنا وهناك ،بالمقارنة مع الظروف المختلفة في كلتا الحالتين .
6إنَّ دراستنا لأسلوب المعالجة للحالة الصعبة التي عاشها المسلمون أمام هذا التحدّي الكبير ،تؤدي بنا إلى التركيز على حيوية الأسلوب الإسلامي للعمل ومرونته الحركية ،فلا يقف أمام عنصر واحد من عناصر المواجهة ،ولا يتجمد عند حالة عاطفية أو عقلانية واحدة ،بل يحاول أن ينتقل من جوٍّ إلى جوٍّ ومن عنصر إلى عنصر ،لتتكامل كلّ العناصر وتتجمع كلّ الأجواء التي تساعد على حل المشكلة ومواجهة التحدّي .
وفي ضوء ذلك ،يمكننا أن نقرر خطأ الفكرة التي تعمل على إخضاع أسلوب الدعوة أو أسلوب المواجهة للقواعد الفنية الموضوعة للأسلوب من وحدة الموضوع ووحدة الجوّ ،وما إلى ذلك مما قد يتفق مع الموضوعات التي تريد أن تعالج فكرة واحدة أو موضوعاً محدّداً ،ولكنه لا يتفق مع القضايا التي يُراد من خلالها التأثير على الحالة الداخلية المعقّدة للإنسان وعلى الأجواء الخارجية المحيطة به .فإنَّ مشكلة التعامل مع الإنسان تختلف عن التعامل مع الفكرة المجرّدة ،لأنَّ الإنسان كائن متغيّر متنوّع في عواطفه وتأثراته ،ما يقتضي منّا التحرّك معه في كلّ الاتجاهات التي يمكن أن تهبّ منها الريح ،أو تتأثر بها الأجواء .
7إنَّ الطابع العام لكلّ هذا الفصل هو التذكير الدائم بموقع الإنسانفي كلّ أعماله وأقوالهمن اللّه في ثوابه وعقابه ،ما يعطي الموقف جوّاً روحياً يتحرّك فيه الإنسان في مواجهة الحالة من موقع المسؤولية الإيمانية ،لا من موقع التفكير المجرّد الذي يخاطب فيه الإنسان الحالة كقضية موضوعية مجرّدة لا مجال فيها إلاَّ للحسابات الفكرية الجافة ..