{ يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين 153 ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون 154 ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين 155 الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإن إليه راجعون 156 أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون 157} .
ذهب الذين ينظرون من القران في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض التماسا لسبب النزول في كل أية أو جملة أو كلمة ، ولا ينظرون إليه في سياق جملة وكمال نظمهإلى أن الأمر بالاستعانة في قوله تعالى:{ يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} هو الاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها ، وإن المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس ، واعتمده البيضاوي وغيره ، أو على الطاعات وبهذا صرح الجلال ، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام ، والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أوترك يشق على النفس ، كما يدل عليه حذف متعلقه ، والمعنى استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكارم وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ولاسيما الأعمال العامة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية .وقد بين شيخنا أهم مواضعه التي يدل عليها السياق مع بيان التناسب بين الآيات ووجه الاتصال بما مثاله موضحا:ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة ، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة ، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين ، وإقامة الحجج على المشاغبين ، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين ، ومنها إتمام النعمة ، والبشارة بالاستيلاء على مكة ، وكون ذلك طريقا للهداية ، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق من المسلم المنافق ، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به وتفضح المنافق المرائي فيه ، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه ، أو انقلابه ناكصا على عقبيه ، ثم شبه هذا النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة ، وتأكيد أمر القبلة ، ما يليق بتلك الحالة وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم للإيذان بأن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة ، هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة .
لا جرم أن تلك النعم يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء ، وأنواع من المصائب ، أكبرها ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه ، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه ، أليس من النسب القريب بين الكلام ، ومن كمال الإرشاد في هذا المقام ، أن يرد بعد الأمر بالشكر ، أمر آخر بالصبر ، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذلك ؟ بلى إن هذه الآيات متصلة بما قبلها ، متممة للإرشاد فيها ، وقد هدى سبحانه بلطف إلى علاج الداء قبل بيانه ، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة ، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية ، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم .فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله ، لا أن الآية في الانقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله ، أو السعي لعيالهاعتكافا في المسجد أو انزواء في خلوةعاملا بها .
كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد ، وكانت الأمم مناوئة لهم ، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وما فتئوا يغيرون عليهم ، ويصدون الناس عنهم ، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم ، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم ، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة .أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار .وهذا يدل على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق{[47]} ، إذا لا بد للداعي إلى الحق منه ، والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكه الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة .فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس ، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها .وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة ، أو تأييد فضيلة ، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم ، لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر ، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره ، ومصارعة الشدائد ، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الأمر متكلفا ، ومتى رسخت الملكة يسمى صحابها صبورا وصبارا .
وليس كل محتمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية أنه معهم وبشرهم في الآية الآتية ، وأثنى عليهم في آيات كثيرة ، بل لابد من العمل للحق والثبات فيه كما قدمنا لأن الفضائل لا تتحقق بما يصدر عنها من الأعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء ، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ولذلك أمر الله تعالى به ، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق .وعلى ذلك جرى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عليهم الرضوان ، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوتها وكثرتها ، وإنما كان ذلك بالصبر ، لأن الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر ، كما جاء في سورة العصر .
المحتمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا ، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان ، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون ، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة ، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى وهو جل ثناؤه يبرئ المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله:{ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين} ( المعراج:19-22 ) الخ ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في القرآن إذا قال:{ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} ( الأنفال:45 ) وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد .
ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلين لكانوا من الصابرين ، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها ، أو يقصدون بها قلوب الناس يبغون عندها المكانة الرفيعة بالدين ، لما ترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها .فيجب على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره ، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له أسبابه ، فمن لم يستعن على علمه بالصبر ، لا يتم له أمر ، ولا يثبت على عمل ولاسيما الأعمال العظيمة فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية .ومن يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد ، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه ، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل .
وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي .وأما الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون .تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه لله تعالى ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وكمال سلطانه .تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره:{ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} ( البقرة:45 ) وقال فيها:{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ( النحل:90 ) وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة ، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها ، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات ، واجتراح الآثام والسيئات ، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين ؟ إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكر الغافلين ، وتنبيه الذاهلين ، ودفعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب ، ويستخف بكل كرب ، ويسهل عليه عند احتمال كل بلاء ، ومقاومة كل عناد ، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه ، فهو لا يزال يقول:الله أكبر .حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير ، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير ، الذي يلجأ إليه في الحوادث ، ويفزع إليه عند الكوارث .
ثم قال:{ إن الله مع الصابرين} ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم ، وقالوا إن المعية هنا معية المعونة ، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر ، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء .وقال الأستاذ الإمام:إن من سنة الله تعالى أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار ، وهذا إنما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر ، لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ، لأنه تنكب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته .
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم ، وما يقوله لهم الناس في ذلك وما يقول الضعفاء في أنفسهم:كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها:وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعون من المنافقين والكافرين ، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطئوا النصر ، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ، ومقاومة الشبهات والوسواس ، فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة .