ثم ذكر أعظم شيء يستعان عليه بذلك وهو القتل في سبيل دعوة الحق وحمايتهذكره مدرجا في سياق تقرير حقيقة ودفع شبهة فقال:{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} .أي لا تقولوا في شأنهم:هم أموات .وقالوا إن اللام في{ لمن} للتعليل لا للتبليغ والمعنى ظاهر والتركيب مألوف:{ بل} هم{ أحياء} في عالم غير عالمكم{ ولكن لا تشعرون} بحياتهم إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر .
ثم لابد أن تكون هذه الحياة خاصة غير التي يعتقدها جميع المليين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم ، ولذلك ذهب بعض الناس إلى أن حياة الشهداء تتعلق بهذه الأجساد وإن فنيت أو احترقت أو أكلتها السباع أو الحيتان وقالوا إنها حياة لا نعرفها ، ونحن نقول مثلهم إننا لا نعرفها ونزيد أننا لا نثبت ما لا نعرف .وقال بعضهم إنها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتع به ويرزق .ورووا في هذا روايات منها الحديث الذي أشار إليه المفسر ( الجلال ) وهو "أن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة "{[48]} وقيل إنها حياة الذكر الحسن والثناء بعد الموت .وقيل إن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى .وروي هذا عن الأصم أي لا تقولوا أن باذل روحه في سبيل الله ضال بل هو مهتد .وقيل إنها حياة روحانية محضة .وقيل إن المراد أنهم سيحيون في الآخرة وأن الموت ليس عدما محضا كما زعم بعض المشركين .فالآية عند هؤلاء على حد{ أن الأبرار لفي نعيم*وأن الفجار لفي جحيم} ( الانفطار:13 ، 14 ) أي أن مصيرهم إلى ذلك .
قال الأستاذ الإمام بعد ذكر الخلاف:وقال بعض العلماء الباحثين في الروح عن الروح إنما تقوم بجسم لطيف"أثيري "في صورة هذا الجسم المركب الذي يكون عليه الإنسان في الدنيا وبواسطة ذلك الجسم الأثيري تجول في هذا الجسم المادي ، فإذا مات المرء وخرجت روحه فإنما تخرج بالجسم الأثيري وتبقى معه وهو جسم لا يتغير ولا يتبدل ولا يتحلل .وأما هذا الجسم المحسوس فإنه يتحلل ويتبدل في كل بضع سنين .قال ويقرب هذا القول من مذهب المالكية فقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال:إن الروح صور كالجسد .أي لها صورة وما الصورة إلا عرض ، وجوهر هذا العرض هو الذي سماه العلماء بالأثير .
وإذا كان من خواص الأثير النفوذ في الأجسام اللطيفة والكثيفة كما يقولون حتى إنه هو الذي ينقل النور من الشمس إلى طبقة الهواء فلا مانع أن تتعلق به الروح المطلقة في الآخرة ثم هو يحل بها جسما آخر تنعم به وترزق سواء كان جسم طير أو غيره .وقد قال تعالى في آية أخرى:{ أحياء عند ربهم يرزقون} ( آل عمران:169 ) وهذا القول يقرب معنى الآية من العلم .والمعتمد عند الأستاذ الإمام في هذه الحياة هو أنها حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس ، بها يرزقون وينعمون ، ولكننا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها ، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوض الأمر فيه إلى الله تعالى .