ذكر الله تعالى فضل الشهادة التي استهدف لها المؤمنين في سبيل الدعوة إلى الحق والدفاع عنه ، ثم ذكر مجموع المصائب التي يبلوهم ويمنحهم بها وهي لا تنافي ما وعدهم به من نعم الدنيا فقال{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} أي ولنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وغيره من المصائب البشرية المعتادة في المعايش ، وأكد هذا بصيغة القسم لتوطين الأنفس عليه فعلمهم به أن مجرد الانتساب إلى الإيمان ، لا يقتضي سعة الرزق وقوة السلطان ، وانتفاء المخاوف والأحزان ، بل يجري ذلك بسنن الله تعالى في الخلق كما أن من سنن الخلق وقوع المصائب بأسبابها .وإنما المؤمن الموفق من يستفيد من مجاري الأقدار ، إذ يتربى ويتأدب بمقاومة الشدائد والأخطار ، ومن لم تعلمه الحوادث ، وتهذبه الكوارث ، فهو جاهل بهدي الدين ، متبع غير سبيل المؤمنين ، غير معتبر بقوله تعالى بعد ذكر هذا البلاء المبين{ وبشر الصابرين} فإنه تعالى أراد أن ينبهنا بهذا إلى أن هذه العقيدة هي التي تكتسب بها ملكة الصبر التي يقرن بها الظفر ويكون صاحبها أهلا لأن يبشر باحتمال البلاء والاستفادة بحسن العقبة في الأمور كلها .
فالبشارة في الآية عامة ولم يذكر المبشر به إيذانا بذلك وهو إيجار لا يعهد مثله في غير القرآن الحكيم ، فأنت ترى أنه لو أريد ذكر ما يبشرون به لخرج الكلام إلى تطويل لا حاجة إليه كبيان عاقبة من يقع في كل نوع من أنواع المخاوف فيصابرها وينجح في أعقابها وهي كثيرة ، وهكذا الخوف المشار إليه في الآيةوأعداء الإسلام على ما كانوا عليه من الكثرة والقوةظاهر لا يخفى ، على أن بعضهم فسره بالخوف من الله تعالى وهو باطل لأن هذا من أعظم ثمرات الإيمان ، لا من مصائب الامتحان ، فهو نعمة تعين على الصبر لا مصيبة يطلب الصبر عليها أو فيها لأجل تهوين خطبها .وأما الجوع فقد قالوا إنه ما يكون من الجدب والقحط .
قال الأستاذ الإمام:وليس هذا هو المراد في الآية المسوقة لبيان ما يلاقي المؤمنون في سبيل الإيمان ولا وقع للصحابة في ذلك العهدوإنما هو أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج في الغالب صفر اليدين ، ولذلك كان الفقر عاما في المسلمين من أول عهدهم إلى ما بعد فتح مكة ، ومن هذا التفسير يفهم المراد من نقص الأموال وهي الأنعام التي كانت معظم ما يتموله العرب .وأما الثمرات فهي على أصلها ، وكان معظمها ثمرات النخل .وقيل هي الولد ثمر القلب كما يقولون في المجاز المشهور .وقد بلغ من الجوع المسلمين أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرة ولاسيما في غزوتي الأحزاب وتبوك .وأما نقص الأنفس فهو ما كان من القتل والموتان من اجتواء المدينة ، فقد كانت عند هجرتهم إليها بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها .