ويتصاعد الجوّ وتتحدّد الأوضاع القلقة التي تحكم حياة الإنسان ومسيرته ،فتبعث فيها الاهتزاز في المشاعر والمواقف ،والارتباك في الخطى والخطط العملية ؛ويطرح القرآن للإنسان المشكلة التي تتحدّاه في قوّة إنسانيته وصلابتها ،ويشير إلى الموقف الذي يخلق الجوّ الملائم للحلّ في نطاقٍ من الروح الإيمانية التي لا تنسى اللّه في المواقف الحرجة والتحدّيات الصعبة ،بل تعيش حضوره المهيمن العميق في فكرها ووجدانها وتطلّعاتها للحياة ،لتلتقي بهمن خلال هذا الجوّ الروحيفتجد لديه الصلوات الإلهية التي تغدق الرحمة والمغفرة والرضوان على الإنسان الذي يعرف الهدى في طريقه ويسير عليه ..
[ وَلَنَبْلُوَنَّكُم] أي نختبركم في حجم الإرادة التي تملكونها وصلابتها أمام المخاوف والأهوال لتعيشوا التجربة الصعبة التي ينجح فيها الأقوياء في عزيمتهم وإرادتهم وإيمانهم ،ويفشل فيها الضعفاء الذين لا يملكون عناصر الوعي للواقع ،والتوازن للحركة ،والإرادة للقرار ،[ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ] الذي يتحدّى عنصر الأمن الداخلي في نفوسكم فلا تملكون الطمأنينة الروحية والأمن الخارجي في حياتكم ،فتعيشون الاهتزاز الجسدي في كيانكم والخطر السياسي والاقتصادي والعسكري في نظامكم ،حيث تفقدون أمامه التوازن في المواقف ،والانسجام في الخطى ،والثبات في المواقع ،الأمر الذي قد يدفعكمبفعل ضغط الذين يصنعون الخوف في الواقعإلى تقديم التنازلات من إيمانكم والتزامكم وحريتكم واستقلالكم وإنسانيتكم ،[ وَالْجُوعِ] الذي يمثّل الحرمان من الغذاء الضروري في الحاجات الطبيعية للإنسان كشرط لاستمرار حياته ،ما يؤدّي إلى إضعاف قوّته وضراوة الآلام في جسده ،ووصوله إلى مرحلة الخطر على حياته ،[ وَنَقْصٍ مِّنَ الاَْمَوَالِ] في الخسائر المتنوّعة التي تؤدّي إلى ذهاب الأموال ونقصها بفعل الحوادث الاجتماعية ،والكوارث الطبيعية ،والحروب الشديدة ،[ وَالأنفُسِ] من رجالكم ونسائكم وأطفالكم الذين تقضي عليهم الحروب والأمراض والزلازل والبراكين والفيضانات ونحوها ،[ وَالثَّمَرَاتِ] قيل: إنَّ المراد بها ذهاب حمل الأشجار وقلة النبات وارتفاع البركات ،وقيل: أراد به الأولاد لأنَّ الولد ثمرة القلب ،وعلّله بعضهم بأنَّ تأثير الحروب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار ،ولكن الظاهر من الآية أنها غير مختصة بحالات الحرب ،بل هي عامة لكلّ واقع البلاء في حياة الإنسان .
وإذا كان الهدف من الآية هو توجيه المؤمنين إلى أن يتحملوا نتائج الدعوة إلى اللّه والجهاد في سبيله بما يؤدي إلى النتائج السلبية على حياتهم العامة والخاصة ،فإنَّ ذلك لا يعني الاختصاص بهذا الجوّ الخاص ،بل المقصود هو الصبر في الخطّ العام للوصول إلى النتائج الإيجابية في الصبر في المورد الخاص .]وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[ الذين يعيشون صلابة الموقف ،وقوّة التحمل ،والتمرّد على الحرمان والثبات في مواقع الزلازل ،حيث تبقى إنسانيتهم في صمود عزيمتهم ،ليتابعوا رسالتهم في الحياة من دون تراجع أو انهيار أو انحراف .
إنَّ اللّه يمتحن إيمان الإنسان في ما يمرّ عليه من الخسائر والمصائب والمحن ،ليرى كيف يواجه ذلك كلّه ؛أبالصبر أم بالجزع ،أبالرضى أم بالاحتجاج ؟..وكيف يفهم البلاء الذي ينزل به في مختلف صوره وجهاته ،هل هو عذاب وانتقام ،أم رحمة إلهية في نطاق النظام الكوني الذي يربط المواقف بأضدادها من خلال التحدّيات الصعبة التي تواجه العاملين السائرين على الخطّ المستقيم في الحياة ؟فإنَّ للاستقامة ضرائبها الثقيلة في مختلف جوانب الحياة ،حيث تتحرّك قوى الانحراف وعوامله لتقف حاجزاً بين الخطّ المستقيم وبين الامتداد في اتجاهه السليم ..وهنا يأتي دور الصبر الذي يمنح الإنسان قوّة الثبات والصمود والتماسك أمام العقبات التي تقف في مجالات التحدّي ،فلا ينهار ولا يتخاذل ولا يضيع ولا تتبعثر خطاه في الرمال المتحرّكة للبلاء ،بل يمتص ذلك كلّه بروحه الرسالية الإيمانية التي تنفتح على الواقع لتعرف أنَّ الطريق ليس مفروشاً بالورود ،فتتعلم كيف تتعامل مع الأشواك الحادّة في لغة الجراح النازفة ،وفي أسلوب الآلام العميقة ،فلا تسمح للجراح بأن تبكي ولا ترضى للآلام بأن تصرخ ،بل تحاول أن تعلّمها كيف تبتسم في فرح الرسالة وهي تتقدّم على الرغم من كلّ الأشواك والآلام .
وهكذا أراد اللّه للمؤمنين الذين ينطلقون في رسالتهم أن يقفوا أمام قوى الكفر والشر والطغيان في العالم من أجل أن يغيّروا العالم على أساس شريعة اللّه وتعاليمه ،فدعاهم إلى أن لا يواجهوا البلاء الذي يصيبهم بنقص [ مِّنَ الاَْمَوَالِ وَالاَْنفُسِ وَالثَّمَراتِ] مواجهة الأشياء المفصولة المعزولة عن جذورها وأسبابها ،بل يواجهونها من خلال طبيعة حركة التغيير التي تنطلق في حياة النّاس لتكون اختباراً لقوتهم الذاتية ولمبادئهم ولمواقفهم العملية عندما تتعرّض للتحدّي من القوى المضادة ،فإنَّ من الطبيعي أن يتحرّك الآخرون ليدمّروا وليقتلوا وليضغطوا ويحرقوا الأخضر واليابس انتقاماً وثأراً وحقداً ،ولكن خطوات الحقد والثأر والانتقام ليست طويلة ،بل هي قصيرة جداً ،لأنها تعبّر عن ردّات انفعالية حماسية لا تلبث أن تتبخّر في الهواء ،فلا بُدَّ من الصبر الذي يدفع المؤمنين إلى المقاومة والتحمّل والثبات من أجل أن يصلوا إلى نهاية المطاف ،ليصعدوا إلى القمة عندما تتهاوى دعوات الباطل على أقدام السفوح .
البلاء ونسبته إلى اللّه:
وقد يتساءل البعض: هل البلاء الذي يتحدّث اللّه عنه في هذه الآية وغيرها فينسبه إلى نفسه ويعتبره اختباراً وامتحاناً لإيمانهم وثباتهم على الخطّ ،هو من صنع اللّه بشكل مباشر ،بحيث إنَّ اللّه يوجهه إلينا من دون أن تكون هناك ظروف موضوعية تقتضيه ،أم القضية هي أن يكون امتحاناً تماماً كما هي الأعمال التي يكلف بها النّاس في فترات التدريب والامتحان ؟
وقد نستطيع الجواب عنه ،بالقول إنَّ الحياة في كلّ ما يحدث فيها ،من أرباح وخسائر وأفراح وآلام ،مشدودة إلى إرادة اللّه وقضائه وقدره من خلال الأسباب والقوانين الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون ،فلكلّ عمل من الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذه الحياة نتائج سلبية أو إيجابية على مستوى حياته الفردية أو الاجتماعية ،سواء في ذلك جانب الممارسات الذاتية أو العلاقات الخاصة والعامة ،فلا بُدَّ للإنسان من أن يتألم إذا عاش في الظروف التي تفرز مثل هذه الآلام ،ولا بُدَّ له من أن يجوع إذا تحرّكت الأسباب التي تنشر المجاعة في الكون ،ولا بُدَّ له من أن يخاف إذا عاشت الحياةُ أجواء الخوف ...فليست النتائج معزولة عن مقدّماتها ،بل هي وليدة تلك المقدّمات .
ما معنى البلاء في الأوضاع الطبيعية ؟
وهنا يثور سؤال: إذاً ما معنى أن يكون مثل ذلك ابتلاءً بعد أن كان أمراً طبيعياً تماماً كما هي مظاهر الطبيعة الكونية الموجودة في الحياة ؟
والجواب عن ذلك: إنَّ القضية ،كلّ القضية ،هي في موقف الإنسان أمام هذه الظروف الطبيعية التي تفرزها حركة المبادىء والرسالات في الحياة ،فذلك هو سرُّ البلاء في حياته .فهل يتجاوز المرحلة التي تتحرّك فيها الآلام والخسائر والمخاوف بأعصاب هادئة ومواقف ثابتة بعيداً عن كلّ اهتزاز وانحراف ،أم يسقط صريعاً أمام ذلك كلّه لتسقط معه رسالته ومبادئه كنتيجة لاهتزاز نقاط الضعف في كيانه وانسجامها مع قوى الانحراف والتحدّي المضاد ؟إنَّ الواقع بأسبابه الطبيعية يعتبر امتحاناً واقعياً للإنسان ،تمتحن به إرادته ورسالته .وقد نستوحي من كلمة [ وَلَنَبْلُوَنَّكُم]في ما تعطيه كلمة البلاء من معنىأنّ الموقف يحمل للإنسان قيمة التجربة في تركيز شخصيته وتقوية إرادته ،في ما يثيره لديه من مشاعر القوّة في داخله من خلال الإيحاء له بما يحمله الامتحان له من نتائج على مستوى الدنيا والآخرة ،ولا سيّما إذا لاحظنا أن طبيعة هذا الامتحان ليست شكلية يمكن للإنسان أن يقوم فيها بدورٍ تقليدي ساذج من دون وعي أو روح ،بل هي طبيعة حقيقية أساسية تقتحم كلّ حياته الداخلية والخارجية لتحوّلها إلى ما يشبه حالة الطوارىء في ما تثيره من نقاط الضعف والقوّة ،وفي ما تخلقه من عوامل الإثارة والتحدّي ،وبذلك تتحوّل نتائج الامتحان من عملية اكتشافٍ للقدرات الذاتية إلى عملية تنمية هذه القدرات وتقويتها في خطّة عملية لصنع الإنسان .