وإن الجهاد بلاء ، ولا بد أن يستعدوا له ، فهو اختبار ، ولذلك قال تعالى:{ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} .
إن هذا النص جاء توطئة للجهاد ، وليتحملوا كل ما فيه من شدائد ، وكله شدائد إلا على المؤمنين الصابرين ، وإنه يجب أن يتوقعوا ذلك ويتحملوه ، فإن الأمر المتوقع إذا وقع سهل حمله ، وإذا جاء على غير توقع صعب وقعه ، وهلعت النفوس ، وهذا النص كقوله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214} [ البقرة] ومثل قوله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 142} [ آل عمران] .
فهذه من أخوات هذه الآية التي نتكلم في معناها ، فهي بيان لما يتوقعه المجاهدون ، وخصوصا أن هذه الآية كما يبدو من سياقها مع الآيات كانت في السنة الثانية من الهجرة ، وقد فتح باب الجهاد الأكبر ويوم الفرقان قريب الوقوع وهو بدر الكبرى الذي فرق بين عهد النصر المؤزر ، وعهد الاستضعاف .
{ ولنبلونكم} البلاء الاختبار لا ليعلم الله تعالى ، بل ليظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه المكنون ، ولقد أكد الله تعالى البلاء ليؤكد موضوعه بالقسم الذي دلت عليه لام القسم ، ونون التوكيد الثقيلة{ بشيء من الخوف} قال بعض العلماء:التنكير فيه للتقليل ، وإني أرى أن المقام موجب أن يكون التنكير فيه للتكثير لكي يتحقق معنى الابتلاء فيقدمون على حرب لقوم شداد غلاظ من شأنهم أن يخوفوا ويفزعوا ، وقد قيل إن ذلك الخوف يتنافى مع الشجاعة التي عرف بها النبي ، وصحبه الكرام أمثال حمزة بن عبد المطلب أسد الله ، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام والزبير وغيرهم ، من الصناديد الذين يتقدمون في الميدان لا يهابون إلا الله ، ونقول في ذلك إن الشجاعة لا تنافي الخوف ، لأن الخوف يحمل على تدبير الأمور ، وبعد تدبيرها يفترق الشجاع عن الجبان ، فالجبان لا يقدم والشجاع مقدم مقدرا النواحي المخوفة ، والنواحي التي فيها جانب الله تعالى فيقدم على بينة ، وقد حقق الذين درسوا النفوس فقرروا أن الشجاعة لا تكون شجاعة إلا إذا أحس بخطورة الأمر وأقدم غير هياب ، وإن المؤمنين قد أصيبوا بما من شأنه أن يخيف ولكن لم يجبنوا عن اللقاء ، بل أقدموا عليه في غير تلكؤ ولا اضطراب .
هذا شأن الخوف ، ثم قال تعالى:{ والجوع} فقد أصيبوا بشيء غير قليل من الجوع ، وقد كانوا يربطون الأحجار على بطونهم .
كما كانوا يفعلون في حفر الخندق ،{ ونقص من الأموال} ، فإنه في الحروب يتوقف اشتغال المؤمنين بالتجارة وغيرها ، فهل كان أبو بكر التاجر تجري متاجره ، والحروب قائمة ؟ وهل كان عثمان ذو النورين تستمر متاجره غادية رائحة والحرب قائمة بن الشرك وأهل التوحيد .{ والأنفس} ، فإن ملحمة الحرب يكون فيها الشهداء ، وقتل الأبطال .{ والثمرات} وقد أصيب الأنصار في المعارك وقد خرجوا للجهاد فلم يسقوا زرعهم ولم يرعوا ثمرات نخيلهم فنقصت ثمارها .
ذكر الله تعالى ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، وكانوا على مقربة منه ، لأن ذلك كان قبيل غزوة بدر الكبرى ، فذكر الله تعالى ذلك ليتوقعوه قبل أن يقع فيعدوا له الأنفس بالصبر ، وضبط النفس ، والاستعانة بقوى النفس في الجهاد وتحمل الأذى من الحرب ، فقد كتب عليكم القتال ، وهو كره لكم ، ولكنه خير في نتيجته ما دام ردا للاعتداء ومنعا للفتنة وفتحا لطريق الدعوة .
ولذا قال تعالى:{ وبشر الصابرين} والبشارة هي النصر الكامل ، وذكر أن المبشرين هم الصابرون ، فالوصف علة للحكم فكانت البشارة بالنصر بسبب الصبر ، لأن الصبر عدة النصر ، كما قال علي رضي الله عنه بطل الحرب الإسلامية:كنا ننصر بالصبر والتأييد .