هذا ما يعد الله به تعالى نفوس المجتهدين ، صبر وذكر لله تعالى ، وإنه من بعد ذلك يكون القتال ، ويكون الشهداء ، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس القتال شهوة ، ولا نزهة ، ولكنه فداء وبلاء ، واستشهاد ، وإن الشهداء لا يموتون ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، والحياة ليست للأشباح فقط ، بل هي للأرواح ، ولذا قال تعالى:{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} .
النهي عن القول ، والقول دليل الاعتقاد فهو نهي عن الاعتقاد ، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن الاعتقاد في آية أخرى في معنى هذه الآية الكريمة وفي موضوعها فقال تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون 169} [ آل عمران] وفي الآية التي نتكلم في معناها قال الله تعالى:{ ولكن لا تشعرون} ، أي ولكن لا تحسونهم بمرأى العين ، وذلك لا يقتضي أنهم ماتوا ، بل هم عند ربهم يرزقون ، ولقد قال تعالى:{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون 169 فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون 170 يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين 171} [ آل عمران] .
وإن حياتهم روحية يستبشرون بها بأنهم فدوا إخوانهم ، وأنهم قدموا أنفسهم ، وآثروا إخوانهم ، ولقد صور النبي صلى الله عليه وسلم حياتهم فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:( إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال:ماذا تبغون ؟ فقالوا:يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، ثم عاد عليهم بمثل هذا ، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل مرة أخرى ، فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون ){[126]} .
هذا حديث مصور لحياتهم الروحية ، وأنهم في جنات النعيم ، وأنهم ما ندموا على أن قتلوا شهداء بل إنهم فرحون بذلك ، وأنهم يتمنون أن يعودوا ليقتلوا في سبيل الله تعالى ، لأنهم راضون بما فعلوا ، فهم يطلبون الشهادة بأرواحهم كما طلبوها بأبدانهم ، وإن ذكر الشهداء بعد الأمر بالصبر والصلاة تأكيد لضرورة الصبر ، ولا يكون من غير صلاة .