{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي وتالله لئن جئتهم بكل آية على نبوتك وكل حجة على صدقك ، ما تبعوا قبلتك فضلا عن ملتك فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم ، ولا تحسبن الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم ، فهم قوم مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال .وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال:{ وما أنت بتابع قبلتهم} فإنك الآن على قبلة إبراهيم الذي يجلونه جميعا ، ولا يختلف في حقيقة ملته أحد منهم ، فهي الأجدر بالاجتماع عليها ، وترك الخلاف إليها ، فإذا كان أتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا ، وعنادهم فيما اختلفوا ، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة ، وكون الجهات كلها لله تعالى ، وأن الفائدة فيها الاجتماع دون الافتراق ، فأي دليل أم أية آية ترجعهم عن قبلتهم ؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها ؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى .
{ وما بعضهم بتابع قبلة بعض} لأن كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه ، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل ، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره ، فهو أعمى لا يبصر ، أصم لا يسمع ، أغلف القلب لا يعقل{ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك لمن الظالمين} أي ولئن فرض أن تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك ، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد ، والعلم الذي لا مجال معه للظنإنك إذا تفعل هذا فرضا ( وما أنت بفاعله ) تكون من جماعة الظالمين ( وحاشاك ) .والكلام من باب"إياك أعني واسمعي يا جارة "، وبيانه أنا قد أقمنا لك مسالة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به أن نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة ، وأن جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر ، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر كتبهم يأتي من مولد إسماعيلفبعد هذا العلم كله لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في أهواء القوم استمالة لهم ، إذا لا محل لهذه الاستمالة ، والحق قوي بذاته ، وغني بمن ثبت عليه ، ومن عدل عنه مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم فهو ظالم لنفسه ، وظالم لمن يسلك بهم هذه السبيل الجائر .
الأستاذ الإمام:هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل ، فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته ، إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه ، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق ، ويردي الناس في مهاوي الباطل ، كأنه يقول إن هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتى لو فرض وقوعه مع أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم ، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما{ وما للظالمين من أنصار} فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل ؟
نقرأ هذا التشديد والوعيد ، ونسمعه من القارئين ، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم ، حتى أنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها ، ويمازجونهم فيها ، وإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا:ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة .العامة عمى .آخر زمان .وأمثال هذه الكلمات هي جيوش الباطل تؤيده وتمكنه في الأرض ، حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين .
وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها ، ويسفهون رأيه ويعدونه عابثا أو مجنونا ، إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم ، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف ، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين .وأعجب من هذا الأعجب أن منهم من يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ، ومقاومة هذه الأهواء والفتن ، جناية على الدين ، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين ، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة! ! وبأنها لا تخلو من خير يقارنها كالذكر الذي يكون في المواسم والاحتفالات التي تسمى بالموالد وكلها بدع ومنكرات ، حتى أن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع! ! والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم ، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعا ومنكرات عليها ، أنهم إنما سكتوا بالثمن{ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا} ( التوبة:9 ) وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن ، وما كانوا أشد منهم جحودا ، ولا أقوى جمودا .
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه .ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء ، وكيف يفتنون ويؤلفون الكتب لهم ، ويخدعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم ، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهملظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم ، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل ، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم ، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بأنهم من الظالمين ، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين .