بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء:ما ولاهم عن قبلتهم ، وأن منهم أهل الكتاب ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام ، فكانت إجابة هذه الرغبة ، وكان التحويل ، والسفهاء قالوا ما قالوا ، ولج بنو إسرائيل في سفههم ، وهم يعلمون أنه الحق ، وهو تحويل القبلة إلى بيت الله الحرام ، وقد قال الله تعالى في ذلك:{ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام ، لأن الكعبة بناء إبراهيم ، ولأن ملته هي ملة إبراهيم ، ولأنه مثابة الناس وأمنهم ، ولأنه مجتمع العرب ، ومؤتلفهم ، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم ، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا ، ويرفعه رجاء ، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها ، وترضى العرب ، ولا يكون فيها تابعا لبني إسرائيل ، بل يولي وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنبياء .
فتقلب الوجه ، هو الضراعة إلى الله تعالى لكي تكون القبلة هي البيت الحرام ، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا ، وراجيا أن ينزل قرآنا بتحويل القبلة .
وقد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا ، وخفضه خاضعا ، على رجاء نزول قرآن بالتحويل ، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدم بالطلب على الله تعالى ، والحق أن التقلب لرجاء الوحي وللضراعة إليه والدعاء ، وليس في ذلك تقدم على الله في طلب شرعه ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما ، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام ، فهو إذا دعا بذلك وتضرع إنما يستنجز وعد الله تعالى ، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك .
ولقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى:{ فلنولينك قبلة ترضاها} الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها ، أي إن الله تعالى استجاب لرجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعائه ، وقوله:{ فلنولينك قبلة ترضاها} معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها ، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا ، فالمعنى لنعطينك القبلة التي ترضاها ، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها .
وقد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبي صلى الله عليه وسلم أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم ، وتقدير القول:فوالذي يحلف به لنولينك قبلة ترضاها ، وهي الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام ، فلا بد أن يتجهوا إلى بنيته .
وإن هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى:{ سيقول السفهاء . . . 143} [ البقرة] ، لأن تقدير قول السفهاء لا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، كما نص القرآن الكريم .
وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى:{ فول وجهك شطر المسجد الحرام} والفاء للتفريع عما قبلها ، والوجه المراد به حقيقة الوجه ، لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام ، وقد يراد به الشخص كله ، ويكون الوجه المراد به الذات ، والتعبير بالوجه عن الذات ، لأنه الذي تكون به المواجهة ، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان .
والشطر الناحية والاتجاه ، والنحو ، ولقد جاء في تفسير أبي السعود العمادي:وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء ، ودار شطر ، إذا كانت منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل .
ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه ، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك ، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارق الأرض ومغاربها ، روي عن ابن عباس أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ){[119]} .
وقوله تعالى:{ فول وجهك شطر المسجد الحرام} الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إجابة لما رجاه ، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا ، وتشريفا ، ولتبيين منزلته عند الله تعالى .
وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام ، وليس بخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:{ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} .
وقد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص ، وإن كان لا يدل عليه ، فقد يفيد خصوص النبي صلى الله عليه وسلم ، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب ، وعموم الناس ، وعموم الأمكنة ، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه ، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه ، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جانب من جوانبها ، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها ، غير مستدبر لها .
وقد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون:{ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . . . 142} [ البقرة] وكان اليهود مبعث هذا التشكيك ، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا . وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم ، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا ، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق:{ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} والضمير في قوله تعالى:{ ليعلمون أنه الحق} قد يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاضر في الأنفس وفي العقول ، فكأنه حضور عقلي لا يقل عن العود على المذكور ، لأنه مبشر به في كتبهم ، معلوم عند أحبارهم ، ومعنى{ أنه الحق} أي أن ما جاء به هو الحق ، فليس فيما أتى به الباطل .
ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية ، لا من ناحية الحقائق المنزلة ، ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحي الله تعالى ، ورجحنا ذلك ، لأنه في الموضوع ، ولأن السياق البياني يتلاقى معه ، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق ، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق ، أو نحو هذا من البيان .
وان ذلك هو الحق عندهم ، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبي وجدوده كانوا في "فاران"وأن "فاران"هي بيت عبادة أولاد إسماعيل ، و"فاران"هي مكة وما حولها .
وأكد الله تعالى علمهم بالحق فقال:{ أنه الحق من ربهم} فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة ، وبالقصر بتعريف الطرفين ، فهو الحق ، ولا حق سواه ، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم ، وخلق الأرض كلها ، وله مشارق الأرض ومغاربها ، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي اختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته .
ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب ، فقال تعالت كلماته:{ وما الله بغافل عما يعملون} أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لا يغفل عن أفعالهم من بث للشك ، وغمز من القول ، ومنهم ساخر بأعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من عند ربه ، فهم مراقبون في أعمالهم ، وذنوبهم وآثامهم لا تخفى عليه ، وهو آخذهم بها يوم القيامة .