وحدة القبلة: وحدة الأمّة والاتجاه:
كان النبيّ ( ص ) في ما توحي به الآية الكريمة وفي ما تتحدّث به الرِّوايات ،يعاني أزمة نفسية في موضوع القبلة ؛فقد كان يواجه التحدّي اليهودي للمسلمين ،الذي يتمثّل في تعييرهم لهم بتبعية قبلتهم وفي تفاخرهم بذلك عليهم ،مما كان يترك تأثيراً سلبياً على نفسية المسلمين .ولم تكن القضية قضية انفعال مضاد ضدّ التشريع بالتوجه إلى بيت المقدس ،بل كان تطلّعاً روحياً إلى قبلة جديدة تنسجم مع أجواء الرسالة الإسلامية التي انطلقت من البلد الحرام والمسجد الحرام ،واعتُبرت امتداداً للخطّ الإسلامي الذي بدأه إبراهيم في مُنطَلقِه الروحي من الكعبة ...وكانت مشاعره تتصاعد في ابتهال داخلي كمثل الدعاء الصامت الذي يعبّر عن نفسه بالنظرات الخاشعة التي توحي وكأنها تنتظر شيئاً كمثل الهاجس الداخلي الذي يشبه الوحي .
] قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ[ في تطلع ابتهالي ينفتح في روحية دعائية على ربه ،في تعبير عن الرغبة العقلية التي تنطلق من حسابات دقيقة في مصلحة الرسالة ومن إيحاءات شعورية في وعي التحدّي اليهودي ضدّ الإسلام ،وذلك في دعاءٍ هادىء يرتفع إلى اللّه ،من دون اعتراض على تشريعه للقبلة الأولى ،وتوسل إليه أن يبدلها إلى القبلة الجديدةوهي الكعبةالتي تنسجم مع موقع الرسالة الذي يتجذر في حركة الأمّة ،من خلال الإحساس بأنَّ الدِّين الجديد بحاجة إلى قبلة جديدة تمثّل رمز الوحدة الحركية للأمّة .
فإنَّ اللّه الذي أراد لإبراهيم أن يؤذّن في النّاس بالحج إلى الكعبة ،أعطاها معنى الطهارة والقداسة والخصوصية المميّزة في اعتبارها بيته المحرّم الذي طهَّرهمن خلال إبراهيمللطائفين والعاكفين والركّع السجود ،كما جعله مثابةً للنّاس وأمناً ،وغير ذلك من الخصوصيات الداخلية والخارجية التي تميّزه عن بيت المقدس .فقد صنعت الكعبة على عين اللّه ولم يكن ذلك لبيت المقدس ..وهكذا تقبّل اللّه ابتهالاته ودعواته ،وجاء الوحي ليقرّر التشريع للقبلة الجديدة التي يرضاها اللّه كما رضيها رسوله:] فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ[ يا محمَّد] شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[،أي حوِّل نفسك في توجهاتك العبادية نحو المسجد الحرام الذي يحتوي الكعبةالقبلة باعتبارها جزءاً منه ؛] وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ[ أيها المسلمون ،] فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[ وتوجهوا إليه ،ليكون رمز وحدتكم في اتجاهكم نحو بيت اللّه الذي هو المسجد العالمي ،سواء كنتم في البحر أو في البر ،أو في السهل أو في الجبل ،أو في الجوّ أو في الشرق أو في الغرب ،ولا تنحرفوا عنه إلى غيره يميناً أو شمالاً ولا تستدبروه .وقد انطلق التدقيق بالقبلة من خلال التحديد الصريح في ضرورة التوجه إلى المسجد الحرام حتى أصبح هناك ما يقارب تأسيس علم القبلة .
وهكذا كانت القبلة الجديدة في حركة التشريع استجابةً للتطلّعات الروحية النبوية بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من المصالح الإلهية التي يريد اللّه للنّاس أن يحصلوا عليها من خلال ذلك ...وهكذا وجه اللّه نبيه إلى جهة المسجد الحرام لاشتماله على الكعبة ،وهو قائم يصلي في مسجد بني سالم في ما تنقله روايات أسباب النزول ،ودعا المسلمين إلى التوجه إليه في أي مكان كانوا ...وأثار أمامه قضية أهل الكتاب الذين لا ينطلقون من الواقع في ما ينطلقون فيه من حديث وإثارة ،بل ينطلقون من العناد والمكابرة والكذب ...
] وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ[ ولا سيما اليهود الذي بادروا بالاعتراض وأوحوا للمنافقين أن يرفعوا الصوت عالياً بذلك ،بعد أن كانوا يتحدّون النبيّ ويستعلون عليه لتوجهه إلى قبلتهم نحو بيت المقدس ،] لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ[.قال في مجمع البيان: «أي يعلمون أنَّ تحويل القبلة إلى الكعبة حقّ مأمور به من ربهم ،وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبيّ من صفاته كذا وكذا ،وكان في صفاته أنه يصلّي إلى القبلتين .ورُوي أنهم قالواعند التحويل: ما أُمِرتَ بهذا يا محمَّد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا ،ومرّةً إلى هنا ،فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،وبيّن أنهم يعلمون خلاف ما يقولون » .وربما كان وصفهم بأهل الكتاب في الآية إيحاءً بأنَّ تحويل القبلة موجود في الكتاب ،لأنهم يعلمون أنَّ الخطّ الذي تسير عليه في العقيدة وفي التشريع هو الحقّ من ربهم ،وذلك في ما تحدّثت به التوراة التي يعرفونها جيّداً ويخفونها عن النّاس ،وهم يظنون أنَّ اللّه يغفل عنهم في ما يدبِّرون من مكائد ،ولكنَّ اللّه لا يغفل عنهم وعن أعمالهم في أيّ حال ،] وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[ من الخطط التخريبية العدوانية التي يخططونها في حركتهم المضادة للنبيّ ،من أجل أن يصدّوا عن سبيل اللّه ويفتنوا النّاس عن دينهم الحقّ .
فهو المطّلع على كلّ شيء من أمور عباده .