الأمّة المسلمة هي الأمّة الوسط:
] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[ تقف في الموقع المميّز بين سائر الأمم من خلال الموقع القيادي للرسالة القائدة والدور القائد في الدعوة والحركة ،كما كان الرسول كذلك بالنسبة إليهم في تبليغه وهدايته وقيادته .] لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس[ بفعل المهمة الموكولة إليكم في حركتكم القيادية في اتجاه النّاس مما يستدعي المواكبة والمراقبة والمتابعة بالمستوى الذي يؤهلكم للشهادة عليهم من موقع الإشراف على حركتهم في الخطّ الفكري والعملي ،] وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ لأنه هو الذي صنع الأمّة في وجودكم عندما أطلق الرسالة لتكون عنواناً لكم ،وحمّلكم مسؤوليتها لتحدّد لكم الدور القيادي ،ليشهد عليكم أمام اللّه كيف كانت مواقعكم ومواقفكم وأوضاعكم ودعوتكم إلى دينه .
في هذه الآية حديث عن الأمّة المسلمة بأنها «وسط » في ما جعله اللّه للمسلمين من موقع قيادي في الحياة ،وأنها شاهدة على النّاس ،وحديث عن الرسول بأنه شاهد على الأمَّة ..فكيف نفهم هذه «الوسطية » وهذه الشهادة ؟
جاء في مجمع البيان: «الوسط: العدل ،وقيل: الخير ومعناهما واحد ،لأنَّ العدل خير والخير عدل ،وقيل: أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه ،وقيل: بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه ،قال مؤرّج: أي وسطاً بين النّاس وبين أنبيائهم ،قال زهير:
هُمُ وَسَطٌ يرضى الأنام بحكمهم إذا طرقت إحدى الليالي بمُعظم
قال صاحب العين: الوسط من كلّ شيء أعدله وأفضله ...» .
وقد جرى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية مجرى التفسير اللغوي البحت ،فأخذوا منه معنى العدل والتوازن على أساس ما تمثّله الشريعة الإسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثّله النصارى ،وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثّله المشركون واليهود ،لأنَّ الإسلام يأخذ من الروح جانباً ومن المادة جانباً ،لتكون الحياةكما خلقها اللّهنتيجة التزاوج بين الروح والمادة ،وتتمثّل في التوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد ،والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع في الحياة ،فأعطى للفرد دوره في ما يحقّق ذاته من دون أن يغمط[ 15] حقّ الجماعة في نطاق قضاياها العامة ،وأعطى للجماعة دورها في ما لا يلغي للفرد نوازعه الذاتية الطبيعية .ويمتد الخطّ الوسطي إلى التوازن بين الدنيا والآخرة ؛فللمسلم أن يُقبل على الدنيا ويستمتع بطيباتها من دون أن يسيء إلى خطّ الآخرة في السير مع شريعة اللّه في ما يفعل وفي ما يترك ،وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأسس التي يريدها اللّه ..ويمضي الكثيرون في استيحاء الكلمة من خلال ما في الإسلام من توازن في مختلف جوانب الحياة من حيث العاطفة والعقل ،ومن حيث التفكير العقلي والطرق التجريبية ،ومن حيث الزمان والمكان ...وهكذا ...
وفي ضوء ذلك ،يمكن للأمّة أن تؤدي دور الشهادة على النّاس باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف ،كما يكون النبيّ شهيداً على الأمّة لأنه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الآحاد من الأمّة .
ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية ،بأنَّ هذا المعنى «هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو من دقة ،إلاَّ أنه غير منطبق على لفظ الآية ؛فإنَّ كون الأمّة وسطاً إنما يصحح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان ،وميزاناً يوزن به الجانبان ،لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين ،فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة ،وهو ظاهر على أنه لا وجه حينئذ للتعرّض بكون رسول اللّه شهيداً على الأمّة ،إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمّة على جعل الأمّة وسطاً كما يترتب الغاية على المغيَّا والغرض على ذيه » .
وإننا نتفق مع صاحب الميزان في هذه الملاحظة ،لأنَّ قضية التفسير هي أن يدرس المفسِّر الكلمة من خلال الجوّ الذي تعيش فيه ،ليتحقق الترابط بين الآيات في كلماتها وأجوائها .ونحن نرى أنَّ هذه الآيات تتحرّك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة من خلال الدور الذي أعدّه اللّه لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثّل بالإسلام ،الأمر الذي يجعلهم يتحرّكون في الحياة من هذا الموقع ،ليكونوا شهداء على النّاس في أفكارهم وأعمالهم باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسؤوليتهم ،كما كان الرسول شهيداً على المسلمين من خلال مسؤوليته الرسالية عنهم في ما بلّغهم إيّاه وفي ما أرشدهم إليه ...وفي هذا الجوّ ،لا نجد للوسطية معنى في ما حاوله هؤلاء المفسّرون من الحديث عن التوازن الفكري والتشريعي في المواجهة الإسلامية للحياة ،لأنَّ القضية ليست قضية المضمون الإسلامي في صياغة الشخصية للإنسان المسلم ،بل هي قضية الإيحاء للمسلمين بأنَّ عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثقة بالتشريع وبالمسار العملي ،لأنهم لا يمثّلون التبعية للآخرين في مواقعهم ،بل القضية هي أنَّ الآخرين يدخلون في نطاق مسؤوليتهم باعتبار أنهم يحملون الرسالة القائدة ،والدور القائد في التبليغ والتنفيذ ،كما كان الرسول بالنسبة إليهم في ما يبلّغه وفي ما يهدي إليه ...
إننا نتصوّر الآية في هذا الموقع من خلال الأجواء العامة التي وردت فيها ،ما يجعل من ذكر كلمة الوسط مقدّمة لتقرير فكرة الشهادة ،ويوحي بأنَّ معناها يدخل في معنى العدل والفضل انطلاقاً مما ذكره صاحب كتاب العين: «إنَّ الوسط من كلّ شيء أعدله وأفضله » ،فكأنَّ هذه الكلمة استُعيرت للأمّة المسلمة من أجل تأكيد الثقة في نفوسهم ،على أساس ما حباهم اللّه من هداية إلى سبيله ،لئلا ينهاروا أمام تضليل المضللين وتشكيك المشككين ...وقد يوحي بذلك وقوع هذه الصفة بعد الحديث عن هداية اللّه لمن يشاء إلى صراط مستقيم ،للتدليل على أنَّ اللّه أراد لهم هذه الهداية التي جعلتهم في هذا الموقع ...ولعلّ طبيعة الشهادة على الآخرين أمام اللّه تقتضي أن يكون الشاهد في الموقع الأفضل من حيث الدور الذي أوكل إليه ،ومن حيث السلوك الذي سار فيه ،كما هي حال الأنبياء بالنسبة إلى أممهم .وهذا ما يؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه ؛وربما يؤكد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة:] وَجَاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاس فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ باللّه هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[ [ الحج:78] .
فإننا نلاحظ تفريع شهادة الرسول عليهم وشهادتهم على النّاس إنما هي على أساس اجتباء اللّه لهم وانضباطهم على الخطّ وقيامهم بالدور الموكل إليهم في العمل لأنفسهم وللآخرين ؛أمّا الحديث عن التوازن في الإسلام ،فهو حقّ ،ولكن ذلك لا يعني أنَّ الآية تسير في هذا الاتجاه في مضمونها الفكري .
وقد ذكر صاحب تفسير الميزان في معنى «الوسط »: «أنَّ كون الأمّة وسطاً إنما هو بتخلُّلِها بين الرسول وبين النّاس » .ولكنَّنا قدّمنا أنَّ الوسطية هنا لا يُراد بها ذلك ،بل يُراد بهافي ما نفهمهالموقع الأفضل الذي وضع اللّه فيه الأمّة بالنسبة إلى النّاس ؛واللّه العالم بحقائق آياته .
شهادة الأمّة كيف نفهمها ؟!
أمَّا الشهادة ،فقد ذكر لها عدّة معان ،منها: أنَّ المعنى: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحقّ في الدنيا وفي الآخرة .كما قال:] وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ[،[ الزمر:69] وقال:] وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَادُ[ [ غافر:51] ،وقال ابن زيد: الأشهاد أربعة ؛الملائكة والأنبياء وأمّة محمَّد ( ص ) والجوارح .كما قال:] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ[ [ النور:24] الآية .
ومنها: أنَّ المعنى: لتكونوا حجّة على النّاس ،فتبيّنوا لهم الحقّ والدِّين ،ويكون الرسول عليكم شهيداً مؤدياً للدّين إليكم ،وسُمِّي الشاهد شاهداً لأنه يبين ،ولذلك يقال للشهادة بيِّنة .
ومنها: أنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا وجاز ذلك لإعلام النبيّ ( ص ) إياهم بذلك ...
وإننا نستقرب من هذه المعاني المعنى الأوّل ،لأنَّ الاتجاه العام في آيات الشهادة هو الإيحاء للنّاس بأنّهم مطوّقون في يوم القيامة بالشهادة على ما فعلوه في الدنيا من جميع الجهات ،وذلك من الجهات المألوفة لديهم في الشهادة في ما يشهد به الأنبياء والمبلغون ،أو من الجهات غير المألوفة لديهم وهي شهادة اللّه والملائكة والجوارح ،ليشعروا في الدنيا بالحاجة إلى الانضباط في كلّ ما يعملونه أو يتركونه ،وليتعمّق إحساسهم الداخلي بالرقابة الموجهة إليهم من جميع الجهات .وقد جاءت آيات الشهادة في سياق واحد حتى لا يشعر الإنسان بوجود فارق بين واحدة وأخرى مع اختلاف شخصية الشهود ،كما نلاحظه في الآيات التالية:
] فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً[ [ النساء:41] .
] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ[ [ النحل:84] .
] وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[ [ الزمر:69] .
] مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّه رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[ [ المائدة:117] .
وهكذا نلاحظ أنَّ القضية تتجه إلى يوم القيامة بين يدي اللّه ،للإيحاء بالإحاطة الكاملة بالإنسان من جميع الجهات التي يتصوّر حضورها لديه من خلال المعاينة أو من خلال الإيمان ،وذلك على أساس أنَّ الشهادة في تجربة الشهداء تتحرّك في الدنيا في الموقع القيادي الذي يتمثّل فيه الشاهد الواقع كلّه في حركة النّاس في الحياة ومدى التزامهم بالوحي الإلهي في خطّ الرسالات في دائرة السلب والإيجاب ،ليقدّموها بين يدي اللّه في موقف الحساب ،فلا تنافي بين مفهوم الشهادة في واقع الدنيا التي يتحرّك فيها الشهداء بين النّاس وبين حركتها الفعلية الأدائية في موقف القيامة أمام اللّه .
وفي ضوء ذلك ،نفهم أنَّ المعنيين الآخرين لا ينسجمان مع الأجواء العامة للآيات ،ولا سيّما المعنى الثالث الذي يركّز على حاجة النبيّ للشهادة على الأمم بأنّه بلَّغهم ،إذا أنكرت الأمم ذلك ،إذ لا معنى لحاجة النبيّ لذلك مع اعتباره شاهداً أساسياً تُطلب شهادته بشكل أصيل ،ما يعني اعتبار شهادته قاعدةً للحكم على الأمم من خلال دخولهم ضمن مسؤوليته التي منحه اللّه الثقة في القيام بها بكلّ أمانةٍ وصدق .
اعتراض وجواب:
وقد أثار المفسرون اعتراضاً في هذا المجال ،وخلاصته أنَّ الشهادة تفرض الموقع المتميّز للشاهد على المشهود عليه ،ونحن نعلم أنَّ الأمّة تضم في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم ،فكيف يمكن أن يكون الجميع شهوداً في موقع الشهادة ؟والجواب أنَّ الأسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكلّ ،باعتبار اشتمال الكلّ عليه ،تماماً كما قد حدّثنا عن بني إسرائيل ،مع أنَّ الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض… وعلى هذا ،فإنَّ كون الأمّة شاهدة يتحرّك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير ،وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقيّة المنضبطة التي تفهم الإسلام حقّ الفهم ،وتعيه حقّ الوعي ،وتمارسه حقّ الممارسة ،وتحمله بروح رسولية رائدة .إنها النخبة الواعية الموجودة في كلّ زمان ومكان ،التي يقف في طليعتها الأئمة الطاهرون والعلماء الواعون والأولياء الطيبون والمجاهدون العاملون الذين يحملون هذه الشهادة إلى اللّه ،لأنهم يعيشون روح الرسالة ،ويعيشون من خلالها الوعي لكلّ حياة النّاس ،كما هو الرسول في رسالته وفي وعيه لأمّته .
تشريع القبلة امتحان لطاعة الأمّة:
ويستمر الحديث عن هذا التشريع الجديد من خلال التركيز على الطبيعة التربوية التي تحكم هذا التنوّع في التشريع من موقعٍ للقبلة في بداية الدعوة إلى موقع جديد في امتدادها الطويل ...ويتجه الخطاب إلى النبيّ ( ص ) باعتبار أنه رسول اللّه إلى الأمّة ،المكلّف بتوضيح الصورة لهم:] وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ[ وهي بيت المقدس ،] إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ[.
فقد أراد اللّه أن يختبر المسلمين ليربيهم على الطاعة المطلقة له ،التي تتمثّل في التسليم لأحكامه من دون أي ريب واعتراض ؛فأمرهم في البداية بالتوجه إلى بيت المقدس ،ثُمَّ حوّلهم عنها ليبرز الأشخاص الذين يعيشون الإسلام فكراً وشعوراً وممارسة وطاعة مطلقة ...وليتميّزوا عن الأشخاص الذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ،ويواجهون الرسالة كأيّة فكرة بشرية قابلة للأخذ والردّ ،ويفهمون الإيمان ارتباطاً شكلياً باللّه وبالرسول ،حتى إذا وقفوا في مواقع البلاء ،تحوّلوا عن مواقفهم ومواقعهم الإيمانية إلى مواقع الكفر والنفاق .ولا نريد أن نخوض طويلاً في ما خاض فيه المفسرون من إثارة التساؤل حول كلمة] إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ[ في الآية ،حيث إنَّ اللّه لا يحتاج إلى أية وسيلة عملية لمعرفة طبيعة الأشخاص ،لأنَّ هذا التعبير جار على الأسلوب القرآني الذي يتحدّث عن الوسائل التي توضح الأشياء الخفية وتُظهرها باعتبارها أساساً للعلم الذي يريد اللّه أن يحصل عليه من خلال ذلك ،وذلك على سبيل الاستعارة لقيام الحجّة على الإنسان بذلك ،للتدليل على أنَّ اللّه لا يعاقب النّاس ولا يحاسبهم إلاَّ على أساس ما يظهر له من أفعالهم وأقوالهم ،وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى:
] الم * أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[ [ العنكبوت:13] .
وهكذا كانت القبلة الجديدة اختباراً للإيمان المستقر في قلوب المؤمنين الذين يسلّمون أمرهم للّه ،فلا يعترضون على ما يأتيهم الرسول به من تشريعات ،لأنهم يؤمنون بأنه] وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى[ [ النجم:34] ،ليتميّز هؤلاء عن غيرهم ...
] مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ[ هذا كناية عن الذين يتراجعون عن خطّ الإيمان ويسقطون أمام التجربة وتثيرهم الشكوك وتنحرف بهم عن الخطّ ،لأنهم لا يعيشون الإسلام تسليماً فكرياً وروحياً وعملياً ،ولا ينفتحون على الرسول التزاماً وطاعة .
] وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه[.الظاهر أنها إشارة إلى هذه الحادثة التي تتمثّل في تحويل القبلة إلى الكعبة ،باعتبار أنها هزّت المجتمع المسلم من ناحية فكرية وعملية ،فأثارت في داخله الشعور باهتزاز التشريع وعدم ارتكازه على أساس متين من المصلحة والحكمة الثابتة التي لا تغيِّرها الظروف والأحوال في ما كان يوحيه اليهود للمسلمين من نظريتهم حول النسخ ،كما كانوا يوسوسون لهم بأنَّ صلاتهم التي كانوا يتوجهون بها إلى بيت المقدس قد ضاعت عليهم ،لأنها كانت إلى غير القبلة الحقيقية ،فأشبهت حالهم حال الذين لا يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة الآن ،ولكن الذين هداهم اللّه وعرّفهم حقيقة شريعته وطبيعة ارتباط التشريع ،وهو الذي يعرف وجه الحكمة في ما يحرِّم وفي ما يحلِّل ،انطلاقاً من اختلاف المصلحة في بعض الأشياء حسب اختلاف الظروف والأحوال ،انطلقوا في الموضوع انطلاق تسليم وانقياد وطاعة مطلقة ،ووعي منفتح على خلفيات التشريع الحكيمة .
أمّا قضية ضياع إيمان المؤمنين ،في ما تمثّله الصلاة من روح الإيمان ،فليس وارداً في حساب اللّه ،] وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[،لأنهم قاموا بالصلاة على أكمل وجه ؛فإنَّ العبرة بحصول الشروط في حال القيام بالصلاة ،فلا يتبدل الحال من هذه الجهة إذا تبدلت الشروط ،لأنَّ الشرط الجديد لا يترك أثراً رجعياً على الأعمال السابقة ،بل يقتصر تأثيره على الصلوات المقبلة ،وهذا ما ينسجم مع رأفة اللّه ورحمته بعباده ،حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدةً لشروطها الكاملة] إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ[.
وقيل: إنَّ المراد «بالقبلة التي كنت عليها » هي الكعبة ،«لأنَّ رسول اللّه( ص ) كان يصلي بمكة إلى الكعبة ،ثُمَّ أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفاً لليهود ،ثُمَّ حوّل إلى الكعبة ؛فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلاً بمكة ،يعني وما رددناك إليها إلاّ امتحاناً للنّاس وابتلاءً ،لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ،ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه فيرتد » .
وفي ضوء هذا ،فإنَّ النبيّ ( ص ) كان مأموراً بالتوجه إلى الكعبة ،ثُمَّ حوّل إلى بيت المقدس ،ثُمَّ أعيد إلى الكعبة ،فكان الابتلاء موجهاً إلى العرب أو إلى قريش الذين كانوا متعلقين بالكعبة ،ما يجعل من تحويلهم إلى بيت المقدس اختباراً لهم ،باعتبار أنَّ ذلك يصطدم بمشاعرهم الحميمة تجاه الكعبة .
ولازم ذلك أنَّ اللّه جعل الكعبة قبلةً مرتين ،ونلاحظ على ذلك:
أولاً: إنه لا دليل على تشريع الصلاة إلى الكعبة في البداية ،ولا ظهور في الآية على ذلك .
وثانياً: إنَّ الظاهر من قوله تعالى في الآية التالية:] قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا[ أنَّ الكعبة كانت تمثّل رغبة النبيّ ( ص ) في أن يوجهه اللّه إليها لتكون قبلة المسلمين في صلاتهم ،ما يوحي بأنه لم يسبق لها أن كانت قبلةً سابقاً .
وثالثاً: إنَّ عملية التشريع أولاً ،ثُمَّ النسخ ،ثُمَّ التشريع ثانياً لا يتناسب مع طبيعة استقامة التشريع .
ورابعاً: إنَّ تشريع الكعبة كقبلة كان مقدّراً له أن يستقر في نهاية التشريع ،ولكنَّ اللّه أخَّر ذلك للحكمة المذكورة في هذه الآية ،وهي أن تكون المسألة مادة اختبار وامتحان للمسلمين ،من دون أن تكون هناك أيّة سلبيةٍ في طبيعة الصلوات التي صلوها إلى بيت المقدس ،لأنها كانت القبلة الشرعية قبل النسخ ،ما يجعل الحكم مطابقاً للواقع ،لأنَّ النسخ لا يرفع الحكم من أصله ،بل يرفعه من وقته .
وخامساً: إنَّ الظاهر من الآية أنَّ التجربة كانت تتحرّك نحو المنافقين الخاضعين لليهود ،في إثارتهم للمشاكل الفكرية ضدّ الإسلام وأهله ،وليست متحركة في الواقع العربي أو القرشي الذي كان لا يمثّل مشكلةً كبرى في الواقع الإسلامي ،ولذلك لم نجد هناك أي حديث تاريخي عن مسألة العلاقة الحميمة بالكعبة التي كانت تمثّل الخطّ الفاصل بين الثبات على الإيمان والانحراف عنه على أساس تشريع القبلة .
وسادساً: روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال: تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبيّ ( ص ) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ،وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ،قال: ثُمَّ وجّهه اللّه إلى الكعبة ،وذلك أنَّ اليهود كانوا يعيِّرون رسول اللّه ( ص ) ويقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا ،فاغتمّ رسول اللّه ( ص ) من ذلك غمّاً شديداً ،وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السَّماء ينتظر من اللّه تعالى في ذلك أمراً ،فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر ،كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين ،فنزل عليه جبرائيل ( ع ) ،فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة ،وأنزل عليه:] قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ،فقالت اليهود والسفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟.
الامتحان وسلامة المسيرة:
وقد نستوحي من هذه الآية أنَّ اختبار القاعدة الإسلامية في حركتها في الواقع مع القيادة ،من حيث صدق انتمائها وجدّية إيمانها وصلابة التزامها ،قد يكون حاجة مهمة لسلامة المسيرة الإسلامية ونجاح الخطط المرسومة ،باعتبار أنَّ ذلك يتكفل بمعرفة القوى المنحرفة التي قد تدخل في الحركة الإسلامية أو في جهاز المرجعية ،أو في المواقع الاجتماعية الحساسة ،ليرصد كلّ خطواتها ويعرّيها ويفضحها حتى لا تكيد للمسيرة ،ولا تربك الواقع ،ولا تعبث بالطيبين الساذجين من النّاس المؤمنين لتوظفهم بطريقة سلبية ضدّ الأهداف الإسلامية ،ولا تعيث في الأرض فساداً ،وذلك بالطريقة التي جرى عليها التشريع في القبلة بأن تتحرّك التعليمات الحركية بالأسلوب الذي يثير الارتباك والتعقيدات ،ولكن مع الحذر في اختيار المضمون والأسلوب والمرحلة ،بالمستوى الذي لا يؤدي إلى النتائج السلبية على الحركة في الوقت الذي تتحرّك فيه للحصول على إيجابيات الواقع .وهذا ما عبّرت عنه الآية .