وقوله تعالى:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) يقول تعالى:إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم ، عليه السلام ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم ، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم ; لأن الجميع معترفون لكم بالفضل . والوسط هاهنا:الخيار والأجود ، كما يقال:قريش أوسط العرب نسبا ودارا ، أي:خيرها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه ، أي:أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى ، التي هي أفضل الصلوات ، وهي العصر ، كما ثبت في الصحاح وغيرها ، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، كما قال تعالى:( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) [ الحج:78]
وقال الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يدعى نوح يوم القيامة فيقال له:هل بلغت ؟ فيقول:نعم . فيدعى قومه فيقال لهم:هل بلغكم ؟ فيقولون:ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح:من يشهد لك ؟ فيقول:محمد وأمته "قال:فذلك قوله:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) .
قال:الوسط:العدل ، فتدعون ، فتشهدون له بالبلاغ ، ثم أشهد عليكم .
رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش ، [ به] .
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يجيء النبي يوم القيامة [ ومعه الرجل والنبي] ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه ، فيقال [ لهم] هل بلغكم هذا ؟ فيقولون:لا . فيقال له:هل بلغت قومك ؟ فيقول:نعم . فيقال [ له] من يشهد لك ؟ فيقول:محمد وأمته . فيدعى بمحمد وأمته ، فيقال لهم:هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون:نعم . فيقال:وما علمكم ؟ فيقولون:جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا "فذلك قوله عز وجل:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) قال:"عدلا ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ".
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) قال:"عدلا ".
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عتيبة بن نهاس:حدثني مكتب لنا عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:"أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق . ما من الناس أحد إلا ود أنه منا . وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه ، عز وجل ".
وروى الحاكم ، في مستدركه وابن مردويه أيضا ، واللفظ له ، من حديث مصعب بن ثابت ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن جابر بن عبد الله ، قال:شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة ، في بني سلمة ، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم:والله يا رسول الله لنعم المرء كان ، لقد كان عفيفا مسلما وكان . . . وأثنوا عليه خيرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت بما تقول ". فقال الرجل:الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت ". ثم شهد جنازة في بني حارثة ، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم:يا رسول الله ، بئس المرء كان ، إن كان لفظا غليظا ، فأثنوا عليه شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم:"أنت بالذي تقول ". فقال الرجل:الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وجبت ".
قال مصعب بن ثابت:فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب:صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )
ثم قال الحاكم:هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبي الأسود أنه قال:أتيت المدينة فوافقتها ، وقد وقع بها مرض ، فهم يموتون موتا ذريعا . فجلست إلى عمر بن الخطاب ، فمرت به جنازة ، فأثني على صاحبها خير . فقال:وجبت وجبت . ثم مر بأخرى فأثني عليها شر ، فقال عمر:وجبت [ وجبت] . فقال أبو الأسود:ما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال:قلت:كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ". قال:فقلنا . وثلاثة ؟ قال:"وثلاثة ". قال ، فقلنا:واثنان ؟ قال:"واثنان "ثم لم نسأله عن الواحد .
وكذا رواه البخاري ، والترمذي ، والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات ، به .
قال ابن مردويه:حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثني أبو الوليد ، حدثنا نافع بن عمر ، حدثني أمية بن صفوان ، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي ، عن أبيه ، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنباوة يقول:"يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم "قالوا:بم يا رسول الله ؟ قال:"بالثناء الحسن والثناء السيئ ، أنتم شهداء الله في الأرض ". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون . ورواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، وعبد الملك بن عمر وشريح ، عن نافع عن ابن عمر ، به .
وقوله تعالى:( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) يقول تعالى:إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه ، أي:مرتدا عن دينه ( وإن كانت لكبيرة ) أي:هذه الفعلة ، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي:وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس ، إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، وأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يكلف عباده بما شاء ، وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا ، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق ، كما قال الله تعالى:( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [ التوبة:124 ، 125] وقال تعالى:( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) [ فصلت:44] وقال تعالى:( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء:82] . ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك ، وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب ، من سادات الصحابة . وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا القبلتين .
وقال البخاري في تفسير هذه الآية:
حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال:بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال:قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها . فتوجهوا إلى الكعبة .
وقد رواه مسلم من وجه آخر ، عن ابن عمر . ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده:أنهم كانوا ركوعا ، فاستداروا كما هم إلى الكعبة ، وهم ركوع . وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، مثله ، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ورسوله ، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقوله:( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي:صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند الله ، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء ، قال:مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس فقال الناس:ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى:( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) .
[ ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه] .
وقال ابن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس:( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي:بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم ، واتباعه إلى القبلة الأخرى . أي:ليعطيكم أجرهما جميعا . ( إن الله بالناس لرءوف رحيم )
وقال الحسن البصري:( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي:ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف ( إن الله بالناس لرءوف رحيم )
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها ، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها ، وهي تدور على ولدها ، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أترون هذه طارحة ولدها في النار ، وهي تقدر على ألا تطرحه ؟ "قالوا:لا يا رسول الله . قال:"فوالله ، لله أرحم بعباده من هذه بولدها ".